المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي يسجل 2457 جريمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين خلال أسبوع    خسائرها تتجاوز 4 مليارات دولار.. الاحتلال الإسرائيلي يمحو 37 قرية جنوبية    شتاء طنطورة يعود للعُلا في ديسمبر    يعد الأكبر في الشرق الأوسط .. مقر عالمي للتايكوندو بالدمام    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل المصري    "إنها طيبة".. خريطة تبرز 50 موقعًا أثريًا وتاريخيًا بالمنطقة    أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    أمريكا تختار الرئيس ال47.. ترمب أم هاريس؟    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأّس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    إشكالية نقد الصحوة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    إعادة نشر !    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    «DNA» آخر في الأهلي    سلوكيات خاطئة في السينما    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قابليات الإنسان بين الاستثمار والإهدار
نشر في الرياض يوم 03 - 06 - 2012

إن التقدم المذهل لعلم الأعصاب وللعلوم الأخرى الباحثة في الطبيعة البشرية واكتشاف طبيعة الدماغ الإنساني العجيب ووظائفه المتخصصة واستجاباته التلقائية واتساعه الواعد قد كشف الإمكانات الهائلة في قابليات الإنسان العظيمة ولكن هذه القابليات مازالت تمتلئ تلقائياً بما يعطل الارتقاء ويديم هيمنة ما قبل العلوم. فالإنسانية عموماً مازالت محكومة بثقافاتها التليدة تتوارثها جيلاً بعد جيل أما الذين يعلمون فإنهم لا يملكون سوى هذا العلم، أما قرارات التبني أو الرفض فهي خارج مجالهم إنهم حتى في المجتمعات المزدهرة والأكثر ازدهاراً مازالوا يعملون كجزر منفصلة فرغم أنهم يعيشون وسط المجتمع فإنهم منفصلون عنه وكأنهم جزر صغيرة وسط المحيط الهائل فلا تتحول العلوم إلى برامج عمل ومناهج تربية إلا في المجالات التي تكرس الماضي وتؤكد منطق القوة وما يعزز ما اعتاده الناس منذ آلاف السنين. فالإنسانية مازالت مشغولة ومستغرقة في تفهم الأشياء فالعلوم التي تتعلق بالأشياء وبمصادر القوة المادية والرخاء الاقتصادي تتحول إلى مشروعات وبرامج عمل أما العلوم المتعلقة بالإنسان نفسه فتبقى غالباً يتداولها المهتمون ويعرفون ماذا يجب أن يكون عليه الإنسان لكنهم لا يملكون إيقاف الاندفاع البشري الأهوج ولا مواجهة تياراته الجارفة...
إن الدول والشركات قد استغلت القابليات والأفكار والعلوم والاختراعات والابتكارات من أجل الانتاج الغزير والأداء الدقيق وتحقيق الوفرة الاقتصادية والتنمية المادية والقوة العسكرية والمكانة الدولية
لذلك فإنه رغم ما حققته الإنسانية من انجازات مدهشة وكشوف عظيمة ومهارات عالية وتقدم هائل فإن هذا كله ليس سوى تمهيد وتوطئة لبزوغ الإنسانية الحقيقية في عليائها الباهرة حيث ستكون قادرة على تحقيق الأنسنة الحقيقية بسيطرتها على نفسها وامتلاكها القدر الكافي من النضج والحكمة والانفتاح والتآخي وستكون قادرة على استثمار قابليات الإنسان استثماراً رشيداً يحرره من معراته الفظيعة ويخلصه من جهالاته المزمنة..
إن قابليات الإنسان العظيمة المفتوحة تهيئه ليصير مدهشاً في تفكيره ومعارفه ومهاراته وأدائه وأخلاقه لأن ما تتلقاه هذه القابليات تلقائياً أو ما يجري تعبئتها به قصداً يفيض انسياباً أو تدفقاً بمقدار كثافة التعبئة، فالإنسان بما ينضاف إليه لكن هذه القابليات في الغالب تمتلئ مبكراً بما هو مضاد للحكمة والعقلانية وما هو معادٍ للحياة والأحياء فبدلاً من تكوين قدرات إنسانية ايجابية ومنفتحة تتكون عوائق صلدة منغلقة الامكانات التي تتيحها القابليات من الايجاب إلى السلب ومن إمكانات التآخي إلى واقع التنافر ومن نصاعة الحقائق إلى ظلام الأوهام فالإنسان تاه عن الهدف الأعظم فصار قادراً على تسخير الأشياء لكنه لم يستطع السيطرة على نفسه فحكمته وعقلانيته مازالت هشة وقابلة للانكسار السريع إنها في غاية الضآلة والضعف قياساً بقدرته على بناء القوة وتعزيز الشراسة فالإنسان مازال يفترس الإنسان ويتعامل بعدوانية ومكر وتضليل واستئثار ومكابرة واستخفاف بالمسؤولية الإنسانية وتهميش ما تقتضيه العدالة ويمليه الضمير النظيف..
إن أية مقارنة بين قابليات الإنسان العظيمة التي تتيح له الارتقاء إلى أقصى المدى وأوضاعه البائسة على المستويات الفردية والاجتماعية والإنسانية تؤكد فداحة الخلل وفظاعة الخسائر فطوفان الجهالات وتفاقم الاضطرابات واستمرار الفقر وانتشار الحروب وتنوع النزاعات وقتامة الواقع واندلاع العنف وتوسيع المخاوف وشيوع القلق وغيرها من الظواهر البشرية الفظيعة كلها تؤكد بأن الإنسان مازال فظاً متوحشاً بدائياً قياساً بما هو ممكن من التجرد والتهذيب والارتقاء والتآخي إن هذه كلها تكشف الهوة الواسعة والعميقة التي تفصل بين ما هو كائن في الحياة الإنسانية وما يمكن أن يكون فرغم الانجازات الهائلة التي تحققت في مجالات العلوم والتنظيم والتقنيات والفنون فإنه بشكل عام وخصوصاً في مجال العلاقات بين الأمم مازال الإنسان بدائياً وعاجزاً عن التفاهم وغير قادر على التعامل الحكيم فهو مازال عاجزاً عن كبح انفجاراته العاطفية وغليانه الايدلوجي واختلافاته الثقافية وجهالاته المزمنة وأحقاده البشعة فالأكثرية الساحقة من البشر في الشرق والغرب مازالت محكومة في تفكيرها وسلوكها بتلقائية الادراك الحسي الساذج..
إن الانجازات العلمية باهرة وعظيمة كما أن تطبيقاتها أشد إثارة وروعة وإدهاشاً لكن التفكير الموضوعي والمعالجة العلمية والرؤية الإنسانية مازالت من نصيب القلة من الناس أما عموم المتعلمين في كل المجالات حتى في المجتمعات المتقدمة فهم يكتسبون مهارات مهنية تتيح لهم النجاح العملي فقط من دون اكتساب التفكير الموضوعي والروح العلمية فالتفكير العلمي مازال محصوراً تقريباً في المجالات العملية والمهنية بشكل سطحي إنها مهارات مكتسبة فهي بمثابة ملفات جانبية خارج البنى الذهنية العميقة فهي تشبه الديكور الذي يُخفي خلفه بشاعات البناء وعيوب التكوين فهو ليس جزءاً من البنية وإنما هو ملصق بها ليستر شيئاً من سوءاتها فالديكور المزخرف يخدع الناظرين ويوهمهم بجمال المخبر والمظهر..
وليس الافتقار إلى التفكير العقلاني محصوراً في المجتمعات المتخلفة بل حتى في المجتمعات المتقدمة فإن تفكير أكثر المتعلمين خارج المجال المهني لا يختلف كثيراً عن تفكير الأميين فالمتحكم بالعقول والعواطف هو البرمجة التلقائية التي يتشربها الناس تلقائياً من البيئة بما في هذه البرمجة التلقائية من طريقة تفكير ساذجة ومنظومة قيم متحجرة وأنواع اهتمامات متوارثة لا تتناسب مع ما ينبغي أن يهتم به الناس، فالتفكير العلمي في كل العالم مازال غريباً غربة شديدة على مستوى الحياة اليومية خارج مجالات الأداء المهني فالأمم في الغالب تحرص بأن تحافظ على استمرار ثقافاتها بمكوناتها المعيقة للفكر العلمي والمضادة للسلوك العقلاني ومن ناحية أخرى فإن اهتمام الإنسانية قد تركز على ابتكار الوسائل من أجل التنمية المادية فجرى استثمار القابليات والأفكار والعلوم والمؤسسات والقدرات والطاقات من أجل الارتقاء إلى أقصى المدى بوسائل الحياة وأدوات الانتاج وحوافز العمل فحققت الإنسانية نتائج مذهلة في الصناعات والتقنيات والانتاج والتنظيم واكتسب الأفراد الكثير من الدقة والجودة والمهارة والابداع.
إن الدول والشركات قد استغلت القابليات والأفكار والعلوم والاختراعات والابتكارات من أجل الانتاج الغزير والأداء الدقيق وتحقيق الوفرة الاقتصادية والتنمية المادية والقوة العسكرية والمكانة الدولية...
أما العلوم التي تتعلق باستثمار قابليات الإنسان العليا للارتقاء الأخلاقي والانفتاح الإنساني والتفكير العقلاني وتحريره من ركام الجهالات المزمنة المتراكمة خلال القرون السابقة للعلوم فإنها مازالت ضئيلة التأثير لأنها ليست ذات مكاسب آنية فلم تهتم بها الشركات ولم تنل من اهتمام الحكومات ما يتناسب مع أهميتها البالغة بل إن الكثير من الدول ترعى الجهالات وتكرس الأوهام لأنه يخدم استمرارها ويستبقي الشعوب عاجزة عن فهم مصدر تعاستها إن تحرير العقل البشري من أوهامه الراسخة وجهالاته المزمنة وعدوانيته العميقة يتطلب من العالم احتشاداً عظيماً تتكاتف فيه كل المنظمات الدولية وكل عقلاء العالم وحكمائه لكن هذا مازال بعيداً عن التحقق حتى اليونسكو المعنية بهذا الشأن غرقت في مجاملة الثقافات المتخلفة وضاعت إرادتها في النزاعات بين الدول الأعضاء وتبدد جهدها في اجتماعات روتينية يتبادل أعضاؤها الإشادة والمجاملة ويتحاشون مناقشة العوائق الأساسية التي تعطل مسيرة الأنسنة الحقيقية الشاملة..
إن الإنسانية مازالت محكومة بثقافات متوارثة معادية غالباً للتفكير العلمي وتقاوم التقارب الإنساني وترفض الانفتاح الثقافي فكل ثقافة تتوهم الامتياز المطلق وتدعي التفرد النهائي وتحتقر الثقافات المغايرة وبسبب ذلك لم تتأثر الثقافات كثيراً بالعلوم الحديثة سواء على مستوى التفكير الاجتماعي أو على مستوى التفكير الفردي فيبقى المجتمع يكرر إنتاج ذاته مهما تظاهر بالاهتمام بالعلوم ومهما استخدم من التقنيات ويظل الأفراد ذائبين في المجتمع في حركته الدائرية المغلقة فالإنسان يولد فارغ القابليات فتصله حواسه بالعالم وتنقل إليه صوراً من البيئة يتكوَّن بها وعيه قبل أن يمتلك قدرة الفرز والتمحيص وبذلك تتراكم تلقائياً المكونات الذهنية التي تُدخله عالم اللغة وعالم الثقافة وعالم الإنسان فعن طريق الحواس يتكوَّن الإدراك الحسي الساذج فيتبرمج الفرد تلقائياً بمعطيات البيئة الاجتماعية والطبيعية قبل تكوين الوعي ثم يتكوَّن وعيه من اللاوعي فيبقى امتداداً له ومحكوماً به فمحتوى اللاوعي المتكون تلقائياً هو الأصل أما الوعي فهو انبثاق منه ومتولد عنه ويظل مجرد مظهر له، إنه يشبه الجهاز التنفيذي وبسبب هذا الارتباط العضوي العميق بين الوعي واللاوعي وهيمنة الأخير فإن الفرد مهما اجتاز من مراحل التعليم ينشأ مغتبطاً بهذه البرمجة التلقائية مهما كان اتجاهها ومحتواها لأنها هي التي صاغت ذاته وكوَّنت وعيه فالبرمجة تفيض تلقائياً كهوية وانتماء وطريقة تفكير ونظام معرفة ولغة ولهجة ونمط سلوك وأسلوب حياة ومنظومة قيم وأنواع اهتمامات...
ولأن الذات يحتلها الأسبق فيتحكم بها تلقائياً فإن تجاوز مرحلة الادراك الحسي الساذج والانتقال إلى مرحلة الادراك العقلي الفاحص لا يتم تلقائياً مهما واصل الإنسان التعليم الاضطراري وإنما إذا حصل الإفلات من قبضة الانتظام التلقائي وتحقق الانتقال فإنه يأتي كوثبة استثنائية نادرة لكنها حاسمة فإن لم تتحقق هذه الوثبة بانكسار أطواق الانتظام التلقائي فإن الإنسان يبقى مأسوراً تلقائياً بفيضان اللاوعي يواصل حياته في مرحلة الادراك الحسي التلقائي الساذج مع ومضات متقطعة من العقلانية الاستثنائية فيما يهتم به اهتماماً استثنائياً...
إن وعي الفرد كوعي المجتمع محكوم بقانون القصور الذاتي فهو ينمو ويتسع ويتعمق لكنه ينمو ويمتد من نفس الجذور إنها استطالة تلقائية لذات النبتة إن التأسيس الحسي التلقائي يظل هو الأساس وهو البذرة التي تمتد منها تفريعات الوعي مثلما تمتد تفريعات الشجرة من البذرة فيتحكَّم به هذا الأساس التلقائي ويظل الفرد مكتفياً بما يفيض إليه من محتوى اللاوعي المتراكم تلقائياً، إنه يفكر ويرى ويحكم بوعي مشروط يتلون به التفكير والأحكام والآراء والمواقف. إنه لا يشعر بخلل محتوى البرمجة التلقائية ولا بافتقاره إلى الحقائق ولا بحاجته إلى التمحيص والتحقق ولا يحس بانغلاق ذاته تلقائياً على ما تبرمجت به بل يفخر بهذا التبرمُج ويتباهى به ويستسلم له ويظل مبتهجاً به فهو قالب ذاته ومنبع وعيه ومحدِّد هويته وهذه هي معضلة الإنسان الكبرى في الشرق والغرب وفي القديم والحديث فلا شيء يعلو فوق ذاته إلا في حالات استثنائية نادرة...
إنه لكي يكون الإنسان عظيم القدرات وليصير مستثمراً لإمكاناته الكامنة وقابلياته العظيمة استثماراً رشيداً ومتقناً فإن أهم ما يجب عليه هو أن يعرف طبيعته وإمكانات قابلياته وكيفية الاستفادة القصوى من هذه القابليات من أجل تحويلها إلى قدرات خارقة ومتنوعة ومتجددة لكن هذه المعرفة الأساسية مازالت مستبعدة عند أكثر الناس كما أنها لم تنل الاهتمام الكافي في التعليم والإعلام ومؤسسات التنشئة وبسبب غياب الاهتمام الكافي على كل المستويات فإن الإنسان يتعامل مع قابلياته التي هي أعظم ما يملك وكأنها تحصيل حاصل بوصفها قدرات جاهزة مع أنها ليست كذلك أبداً فالإنسان يولد بقابليات عقلية وعاطفية وجسدية وليس بقدرات، فالقدرات لابد من تكوينها واكتسابها ومواصلة غربلتها وتنميتها وتطويرها خصوصاً في المجال العقلي والعاطفي فإذا لم يعمل الإنسان على الانتقاء الشديد لغذاء عقله وتحديد مسارات مختارة وممحصة لعواطفه فإن هذه القابليات سوف تمتلئ بأي شيء يصل إليها تلقائياً من دون اختيار ولا تمحيص ولا تحقق وبذلك تضيع عليه الفرصة العظيمة التي أتاحها الله له لتمنحه الفرصة ليحيل القابليات الفارغة إلى قدرات جاهزة...
إن من أهم ما ينبغي للإنسان أن يعرفه عن طبيعته أنه كائن تلقائي وأن التلقائية هي مفتاح طاقاته سلباً أو ايجاباً فالإنسان إذا أدرك مفاتيح طبيعته يستطيع أن يتحكم في نفسه وأن ينميها في الاتجاه الصحيح وأن يبلغ بها أقصى غاية مستطاعة بشرياً لذلك فمن المهم جداً أن يدرك الحقائق التالية:
1- أن ذاته اللاواعية تتشرَّب في الطفولة تلقائياً تصورات البيئة ونظامها المعرفي والأخلاقي وطريقة تفكيرها ولغتها ومنظومة قيمها وعاداتها الذهنية والسلوكية وأنواع الاهتمامات السائدة فيها وكل ذلك يتم قبل تكوين الوعي ومن دون تدخُّل منه بل بهذا التشرُّب التلقائي الأعمى يتكوَّن الوعي ذاته فهو دائماً وعي مشروط وغير ممحَّص فهو وعي زائف إلا إذا حصل في الكبر تدارك فردي يعيد برمجة الذات ويحشدها بالحقائق الممحَّصة ولكن هذا من النادر حصوله...
2- لمَّا كان اللاوعي والوعي كلاهما قد تكوَّن تلقائياً بواسطة التشرُّب التلقائي الأعمى من البيئة فإن الإنسان يبقى محكوماً بهما فهو لا ينظر إلا بهما إنهما مرآته وبواسطتهما ينظر إلى كل ما في الدنيا من ثقافات ومجتمعات وتاريخ وأشياء وأشخاص وأعمال وأفكار ومعارف وغيرها فرغم أنهما تشكلا تلقائياً فإنهما في الغالب مصدر أحكامه وآرائه وتصوراته ومواقفه وسلوكه وما يستحسنه وما يستهجنه وما يقبله وما يرفضه وبذلك تظل أحكامه ذاتية محضة ولا يكتسب قدراً من الموضوعية إلا بمقدار إحساسه اللاحق بهذه الذاتية المستحكمة ورغبته العميقة في التحكم بها وسعيه الصادق من أجل التحرر النسبي منها والتزامه الدقيق بتدريب نفسه تدريباً صارماً لاكتساب مستوى مقبول من الموضوعية..
3- وبهذا يتضح أن الأحكام والآراء الخاطئة الفجة المستقرة المسبقة التي تنساب تلقائياً من أي فرد ليست نشازاً بل هي الأصل على المستوى الفردي والجماعي فهي فيضان تلقائي يتدفق من اللاوعي ويمرره الوعي من دون اعتراض لأن كل إناء بما فيه ينضح فالتحرر النسبي من الأحكام المسبقة لا يتحقق تلقائياً وإنما يتطلب حصول وعي استثنائي طارئ مشع يضطلع بمسؤولية المراجعة وإعادة الفحص والحرص بأن يتحقق من كل الرؤى والتصورات التي تشبَّع بها تلقائياً فصارت تتحكم به بشكل تلقائي فالتلقائية هي المجرى الأساسي للوعي الأساسي التلقائي الزائف أما صرف الوعي عن مجراه التلقائي المستمد من السائد فيتطلب جهداً استثنائياً استدراكياً واعياً وعياً مغايراً فهو يشبه السد الذي يقام في مجرى النهر لصرفه إلى مجرى جديد...
4- إن هذا الادراك المشع الضروري اللاحق سوف يفتح وعي الإنسان على حقيقة الخليط المتراكم الذي تحويه خافيته وبذلك يكون متهيئاً لمراجعة هذا الخليط الذي تراكم تلقائياً فيحلله ويفحصه ويغربله فيستبعد الأوهام والأخطاء ويكف عن الغبطة الزائفة ويحل محلها ما يستطيع إحلاله من حقائق ممحصة...
5- إذا أدرك الإنسان طبيعة العلاقة بين الوعي واللاوعي وعرَف وظيفة كل منهما فسوف يمنحه هذا الادراك اللاحق فرصة عظيمة ليعيد برمجة ذاته وتعبئة خافيته بما يريده لنفسه وما يرغب أن تحويه هذه الخافية من معارف وأفكار وتصورات ورؤى ومواقف وأخلاق فيخرج من التلقائية البليدة إلى تلقائية ذكية وممحصة ليأتي انسيابها التلقائي متفقاً مع المتوفر من حقائق العلم وما هو ناضج من الخبرات الإنسانية الحكيمة...
إنها إمكانات هائلة تتيحها للإنسان معرفة العلاقة بين الوعي واللاوعي فيصبح قادراً على أن يصير كما يود أن يكون بشرط أن تتوفر الرغبة القوية والمثابرة المنتظمة وأن يتحقق ذلك بصبر وابتهاج بعيداً عن الشعور بالملل أو المكابدة...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.