كنا في منزل الأستاذ فاروق طرابزوني, مدير مكتب الخطوط السعودية في صنعاء منذ ما قبل خمسة عشر عاما تقريبا حيث أقام حفل عشاء للزملاء أعضاء الوفد الصحفي الذين دعتهم حكومة اليمن آنذاك لحضور بعض المناسبات التنموية.. كان الوفد يضم عددا من الزملاء أذكر بينهم الأستاذ غالب حمزة أبو الفرج, والأستاذ عبدالغني فستي وآخرين.. كان لا بد أن يلفت الانتباه ذلك الرجل الرث المظهر الأشعث الشعر والذي لو لم يكن كفيف البصر لاعتقدناه عامل حديقة أو حراسة, لكن فوجئنا بالطرابزوني يأخذه من يده قائلا : شاعر اليمن الشهير عبدالله البردوني. فتدافعنا إليه نحييه.. لو قرأ هذا الكلام أحد موجودات فاترينات اليسار العربي فإنه سيبادر إلى القول: طبعا وكيف سترى الصحافة الامبريالية شاعرا مثل البردوني.. إلا عامل حديقة أو حراسة.. الحقيقة أن صفوة المثقفين العرب .. بينهم نزار قباني وادونيس وعمر أبوريشة والبياتي وغيرهم لم يلقوا بالا في احدى ندوات المربد العراقية القديمة لذلك الرجل الرث الثياب الأشعث الشعر واعتبروا وجوده تقليعة شعارات عراقية حين يتم التأكيد على إعطاء كل فئات الجماهير فرصة حضور الندوة.. ولو كان الأمر هكذا لكان البردوني قد أتى من قاع تلك الجماهير.. لكنه ماإن أتاه دور المشاركة وكانت المناسبة احتفاء بالشاعر القديم أبي تمام حتى أدار بعض الأعناق متسائلة ماذا يريد أن يفعل هذا الرجل, لكنه لم يكد يتكلم حتى أدار الأعناق كلها نحوه مبهورة معجبة مستطلعة اسم شاعر كان وحده وقتها لا يقل بأي حال عن أبي تمام في عصره حين قال: ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي.. مليحة عاشقاها السل والجرب وأعتقد أن توغل هذا البيت من الشاعر في كل أبعاد الشارع العربي وتلويحته كسوط تأنيب داخل كل ضمير عربي هو الذي جعل رؤية التعاطف والتعاضد تلتف حول اليمن للخروج بصنعاء من شقائها الطويل, إلا أن اليمن لم يملك الاستقرارالقادر على انفاذ خطط الخروج من محن الفقر, ويعتبر الرئيس علي عبدالله صالح الرئيس الوحيد الذي حكم اليمن بكاملها, بينما حكم م ن قبله صنعاء العاصمة فقط.. لقد كان البردوني رحمه الله معروفا شهيرا داخل اليمن قبل ذلك الحفل, أما بعده فقد اضطر الكبار الذين كانوا يدخلون في جدل يعقبه غضب كي يستأثر الواحد منهم بأولوية الإلقاء, وهو أمر عندما عرفته عن مشاهير الشعر المعاصر وبالذات نزار قباني لم أعد أستغرب ما قرأته عن شاعر الأمس البحتري من أنه كان يحدث نفسه ويبجلها أمام الآخرين, فكلهم ذلك الرجل فيما عدا عبدالله البردوني الذي عاش متواضعا للغاية وكانت كل السلطات المتعاقبة على حكم صنعاء تعرف له قيمته واحترامه,ويتخاطف القراء العرب دواوينه التي اختلفت مشاعره فيها وآراؤه باختلاف المؤثرات التي تعاقبت عليه والمعلومات التي واصل بها تغذية عقله وشاعريته..