المجتمعات الإسلامية اليوم للأسف مفرخة للدكتاتوريات! فليس هذا النمط من الناس استثنائيا في مجتمعات الإسلام، ليس هذا النوع مقصورا على رجال السياسة، الذين ساموا شعوبهم الويل، الدكتاتورية ماء المذهبيات الذي لم يبق أحد إلا كرع فيه تواجهنا التباسات في تراكيب اللغة، وهي مكونة من عدة كلمات، كهذا العنوان، الذي يحمل تقارباً شديداً بين مصطلحي الدكتاتور والدكتور! فنضطر تحت ضغط اللحظة أن نستبقي هذا اللفظ مع إلباسه علينا؛ لكننا نلفت الانتباه إلى إيحاءاته غير المقصودة، ونبقى بعد ذلك ساعين في تلافي هذا الإلباس اللفظي، وهذه صورة من صور إعادة النظر، تجري في تراكيب مكونة من كليمات، فماذا يصنع الإنسان مع تراكيب المفاهيم الثقافية الضخمة، ذات التأثير الأكبر، والخفاء الأعظم على الإنسان؟ إنه مضطر إلى تأسيس علم إعادة النظر الدائم حتى يتخلص من الالتباسات الفكرية والثقافية المستمرة المتدفقة. ثمة عملة في أيدينا، لها وجهان؛ أحدهما التعصب والتقليد، وثانيهما المسلمات، فحيثما وُجِد التعصب، فالمسلمات رِجلاه وعيناه، وما في مقدورنا أن نصطحب أحدهما دون الآخر، فهما يحضران معاً، ويغادران معاً، وما دمنا جميعا نقر على أنفسنا بالتعصب والتقليد، وهما أحد وجهي العملة، التي نملكها، فلنقر على أنفسنا بأن جزءاً كبيراً من تعصبنا الفكري والثقافي يكمن في مسلماتنا المذهبية المصطنعة. قد كنت قلت والرأي بعدُ لكم إنّ المذهبيات اختطفت النص الديني، فأعادت إحلاله حسب منطقها الصراعي، واليوم أقول لكم شيئاً، يبدو لي أشد من الأول، وإن كان ثمرة من ثماره، أقول لكم: إنّ المذهبيات اختطفت العقل الإسلامي، وصيرته رهينة الصراع حول الدين، ولم يستطع المسلمون بعد مضي قرون طويلة أن يحلوا هذا اللغز، بل كان كل جيل يزيد في ضراوته، ويُشعل فيه فتيلاً جديداً، فانقضت القرون، ولم تخلد الأمة إلى كلمة سواء في هذا الشأن، فتحول العقل الإسلامي من استعمار الأرض إلى استعمار النص بالصراع! وتخلّق في رحم الصراع المستديم ما أسميه "دكترة العقل"، ذلك أن الدكتاتورية في نهاية المطاف، ليست سوى مجموعة من المسلمات المدعاة، التي يقف دونها الإنسان مستميتاً. المجتمعات الإسلامية اليوم للأسف مفرخة للدكتاتوريات! فليس هذا النمط من الناس استثنائيا في مجتمعات الإسلام، ليس هذا النوع مقصورا على رجال السياسة، الذين ساموا شعوبهم الويل، الدكتاتورية ماء المذهبيات الذي لم يبق أحد إلا كرع فيه، الدكتاتورية نتيجة طبعية لإصرار الثقافات الإقليمية في عالم الإسلام على إشعار المسلم أنه الأوحد في هذا الكون من بين العالمين، وأنه الممثل لنقاوة الإسلام من بين جميع المسلمين، هذا الشعور الذي تقوم المذهبيات بضخه في وعي المسلم سيدفع به تلقائياً إلى الشعور بالتفرد والتميز عن إخوانه، ويدفع به ذلك إلى السخرية بهم، والاستهجان لما هم عليه، وهذا هو الجو الذي يعيش فيه الدكتاتور السياسي، هو جو مملوء بتقريظ الذات ومدحها والثناء عليها، فهل يختلف هذا الإنسان العادي عن الدكتاتور السياسي، وهما يتعرضان للغة الممجدة نفسها؟ البيئة التي يعيش فيها المسلم اليوم، تزرع في ذهنه عبر خطابها الشائع مجموعة من المسلمات، تكون فيما بعدُ مسوغاته في تمثيل دور الدكتاتور في الحياة، وأغلب الظن أنه لا يعوق الإنسانَ وحركتَه شيء كالمسلمات المصنوعة المفتعلة! يشهد بهذا التأريخ القديم والحديث، وتطور الإنسان وتقدمه موثق بفحص هذه المسلمات، وإعادة قراءتها، والنظر فيها، ولو قال قائل: إن حركة الإنسان وتطوره رهن بمصادمة المسلمات المفتعلة، لم يخطئ الحقيقة، في ظني، فعلى الناس الذين يضعون المسلمات ومنها المذهبيات وحواشيها أن يدركوا هذه القضية، فتأريخ الإنسان في فكره وتطوره لم يُوقف تدفقه، وحركته، وصيرورته، شيء كالمسلمات، وهي مسلمات في كل مستويات الحياة، وما هي بمقصورة على الجانب الديني، فثمة مسلمات في كل مكان!! وصناعة المسلمات واقع، لا يمكن لإنسان أن يغفل عنه، أو يتغافل، فهي فن، يلجأ إليه المتعصبون في كل أمة، وهي صناعة مستمرة متوالدة، لا يتوقف عشاقها عن إبداع الجديد، فهم يُحدثون للناس من المسلمات حسب انطلاقتهم وحركتهم، فبين حركة العقل وحريته وبين صناعة المسلمات تناسب طردي، فحين ترى أو تسمع صوت المسلمات قد بدأ بالظهور فأيقن أنّ ثمة فجرا جديدا، بدأت خيوطه تتشكل. "كل إناء يرشَح بما فيه" أو"كل إناء بما فيه ينضح"، مثل شهير من أمثال العرب، تم توظيفه في الطعن على الناس، الذين يخالفون المألوف في طرحهم الفكري، فيخرجون على المسلمات المفتعلة، والمعنى الذي يراد من وراء ذلك أنّ ما تسمعونه غيضٌ من فيض، وشيء يسير مما يُكنه صاحب هذا الرأي أو ذاك، فهي جملة تُوظّف في تبيان أنّ النظام المعرفي الذي يتبعه هؤلاء المخالفون لا يُنتج إلا ما تسمعه وما يُشاكله، هي جملة يراد منها إقناع الإنسان أنّ الاختلاف ليس جزئياً ولا عارضاً، بل هو خلاف مستحكم وممنهج، فهو خلاف في المسلمات، والمراد من ذلك أن ينأى الإنسان عن مخالفيه آرائهم وتوجهاتهم، وهذا النهج هو الذي كان يستنجد به أعداء الإصلاح، مما يجعل المخالف يبدو مفارقاً في كل شأن، ومدابراً لكل المسلمات! وكل ذلك يحدث؛ لأن الإنسان لم يعطِ من نفسه ما ينتظره من الناس حين رأى أن عليهم أن يعيدوا تفتيش مسلماتهم، فينظروا إليها بعين النقد. وعلى المسلم المذهبي المتعصب الذي يتخذ ذلك المثل في النظر إلى مخالفيه أن يعي تماما أنه يجري في تعامله مع النص والتأريخ ورجاله وفق ذلك المثل، فهو لا يرى في هذه الأشياء إلا وفق ما ينضح به عقله، فالمذهبية تقدم قراءة مطلقة كاملة غير منقوصة للنص، والتأريخ، ورجال الماضي، وبهذا يموت النص، والتأريخ، وسيرة الماضين، فليس فيها من جديد، وتتحول ركائز الثقافة إلى معالم من الآثار، تشبه تلك الآثار التي يقصدها الناس اليوم في مصر وغيرها، فغاية ما يصنعونه حين التأمل فيها أن يملأوا عيونهم من جلالها وعظمتها! المذهبيات الإسلامية واعذروني على الإيجاز أوقفت مدّ النص من جهتين؛ الأولى أنها أضحت تردد الصراع القديم، فكأنّ العقل منحة للقدامى فقط، فحجبت النص عن أن يؤدي دورا حديثا كدوره في القديم، والثانية أنها أصبحت الشغل الشاغل لأهلها، فلم يكن ولاؤهم وإخلاصهم للنص، هم يبحثون عن تأييدها ونصرتها، فضاع عليهم خير كثير، ما كان ليضيع لولا إيمانهم أن المذهبية ذات كمال مطلق، ليس لهم معها من دور سوى البحث عما يؤكد هذه الكمالية، وينتصر لها، ويدحض حجج مخالفيها، وينبذهم بعيداً عنها! وبهذا نكون أمام جريرة كبرى وقعت على النص الأساسي في الإسلام، وهو القرآن الكريم؛ إذ أصبح المسلم لا يبحث فيه عن معنى جديد! فقد كفته المذهبية إيضاح ما يهمه، فتحول النص القرآني من داعم للنظر والتفكير إلى سند للتقليد والمحاكاة، وأصبحت دعوة الإسلام ونصوصه إلى تدعيم دور العقل وتنشيطه مقصورة على المتقدم، الذي أحاط علماً بالنص، ومكنوناته، ولم يعد لي ولا لك من دور سوى أن نصطحب آلة حاسبة، نعد بها الحروف، هكذا قادتنا المنظومة الذهنية التي أفرزتها المذهبية إلى تهميد حركة النص القرآني، فصار القرآن كما هو ملاحظ اليوم مجموعة من الألفاظ والتراكيب اللغوية التي يُتعبد بتلاوتها فقط!! هكذا آلت بنا الحال حين تغلبت المذهبية على الإسلام ونصوصه، فغاب إنسان التفكير والدعوة والتواصل والتعارف والاندماج، وحضر الدكتاتور إنسان التكرار والمفارقة والمقاطعة والابتعاد. ومن الغريب أن تنتصر المذهبيات على القرآن، وهو كتاب الله المهيمن على الكتب السماوية، هذه قضية ورد بها القرآن، ونحن اليوم نرددها كافة؛ لكننا غفلنا عن أن القرآن قبل أن يكون مهيمناً على الكتب التي كانت قبله، فهو مهيمن على هذه المذهبيات، هو الأصل، وهي الفرع، هو المتن، وهي الحواشي، هو الثابت، وهي المرحلية، فهل يخاف المذهبيون من العودة إلى القرآن، وإطلاق العقل في ملكوته؟! ولم يتوقف ضرر المذهبية ورجالها على النص، فمما قيل، وجرت به الركبان: التأريخ يكتبه المنتصر، تلك مقالة صادقة؛ لكن ثمة آخرين يكتبون التأريخ، وإن لم ينتصروا، ومنهم المذهبيون والمتعصبون، فالمذهبي يكتب التأريخ، تأريخ الأمة وتاريخ الأفراد، كما يحلو لمذهبيته، تماماً كما يفعل المنتصر، فهما يجتمعان في التسلح بالمسلمات المفتعلة، وذاك وقود الدكتاتورية، وماء حياتها، فهي لا تنتعش إلا في جو مليء بالمسلمات، وسهولة صناعتها، وهكذا تصنع الثقافةُ العقلَ الدكتاتوريَّ حين يستسلم أهلها، إن كان ثمة عقل بهذا الاسم!