في كل موضوع نتناوله، مثيراً كان أم غير مثير، تحكمنا المقدمات التي تكون حاضرة حين تناوله، والحديث عنه، والتفكير فيه، فالمقدمات تحدد النتيجة، ويعود كثير من الاختلاف بين الناس في الآراء التي يذهبون إليها، والمواقف التي يتخذونها إلى هذه القضية، فالمقدمات التي تحضر في ذهن الإنسان حول الواقعة تحدد موقفه منها، وحسب هذه المقدمات تكون وجهة العقل، ورحلة القلم. وترجع نوعية المقدمات التي تصوغ رؤية الإنسان إلى تكوينه الفكري، والمعرفي، وما دام الناس مختلفين في التكوين، فنتائج نظرهم في الوقائع ستختلف حتما، وليس الاختلاف كما يزعم بعضنا مجرد هوى أونَزْوة، أو من باب: خالف تعرف، بل كل إنسان يبني مواقفه تبعاً لتأسيسه العقلي، وتأصيله الذهني. من غريب أمرنا نحن المسلمين أن جزءاً كبيراً من ماضينا وحاضرنا كان امتهانُ الرموز فيه واجباً دينياً! والطائفية اليوم في وجهها الأقبح امتهان للإنسان، رمزاً كان أو غير رمز، واحتقار له، واتهام لعقله، وطعن في تدينه.. قبل أن نتحدث عن الرموز يحسن بنا أن نعرف أن آليات إنتاج الرموز في كل ثقافة، وكل مجتمع، وكل طائفة، وكل مذهب، مختلفة جداً، فلا تنتظر، أو تظن، أن الناس في هذه الأرض يجرون في اتخاذ رموزهم، واصطفائهم من بين جماعتهم وفق طريقتك التي تسير عليها، وتقبل بها، وتحدد بها رموزك، فللناس طرائق متباينة، وثقافة كل مجتمع تكشف لك وجه هذا الاختلاف في اختيار الرموز، فهل تملك استعداداً لتؤمن بحق شعوب الأرض في اختيار رموزها وفق تقاليدها الثقافية، ومعاييرها الخاصة؟ حين ندخل في الرموز، والحديث عنها، سنتعب في تحديد مفهومها؛ لأننا مختلفون أصلا في حرية الإنسان، التي منها اختيار رموزه، فمن يرى نموذجه في اختيار الرموز نموذجاً يلزم البشرية كلها سيندفع كما هو حال كثير منا اليوم إلى تنقص رموز الآخرين، وامتهانهم، وعزو كل معنى شائن إليهم! فذلك عنده جزء لا يتجزّأ من خطابه في بيان الحق، الذي يؤمن به! وهكذا نعود من جديد في جدلنا إلى قضيتنا الأم، وهي حرية الإنسان، فمتى ما رفضنا حرية الإنسان في اختيار رموزه، وبناء معايير اختيارهم، فلا معنى مطلقاً للدعوة إلى احترام الرموز، والتداعي إلى صيانة جنابهم، وهذا ما يكشف الصدمة الكبرى لمن لا يؤمن بالحرية؛ لأنه حينئذ لا يلتقي مع الناس على شيء! يعيش وحده، ويموت بحسرة وحده. كان بعضنا مشغولاً بامتهان رموز المخالفين! وفجأة وقعت علينا الصاعقة، وحلّت بأرضنا الواقعة، فبدأنا نُطالب باحترام الرموز، وتوقير الرؤوس! كنت تحدثت قبل مدة غير بعيدة عن موجة كلامية حول أفضليتنا الدينية، والشك في الآخرين، والارتياب منهم، جملة وتفصيلا! واليوم بدأنا بكافة طوائفنا نستشعر الخطر من وراء ازدراء الرموز، والتهكم فيهم، والافتيات عليهم! فما الرسالة التي نريد إيصالها للناس عبر هذه المطالبة، ونحن الذين يجلد بعضنا رموز بعض؟ حين جرى ما جرى لمقام أبي القاسم - عليه الصلاة والسلام هُرعنا جميعاً إلى إدانة الحدث، واستبشاعه، ولم تبق طائفة إلا أدانته، وعجبت من الإقدام عليه؛ لكننا نسينا في ظل الأحداث أن ما قمنا من أجله، وهو امتهان الرموز، والوقيعة فيهم، قد رتعنا فيه مرتين؛ الأولى حين احتقرت كل طائفة أختها، وشكت في دينها، والثانية يوم أن ازدرى بعضنا رموز بعض، وطعن في نياتهم وأديانهم، أفليست هذه المواقف المتبادلة ازدراء لمقام النبوة الذي تتبعه هذه الطوائف جميعا، وتسعى للعمل في ضوء ما وصلها منه؟ ألسنا ننظر إلى من يتهمنا، ويُسفّه أفهامنا، بعين من يطعن في المبلِّغ عن الله عز وجل ويمقت دينه؟! من غريب أمرنا نحن المسلمين أن جزءاً كبيراً من ماضينا وحاضرنا كان امتهانُ الرموز فيه واجباً دينياً! والطائفية اليوم في وجهها الأقبح امتهان للإنسان، رمزاً كان أو غير رمز، واحتقار له، واتهام لعقله، وطعن في تدينه، وحين يدعو أحد إلى طمس الطائفية، وقبرها، فهو لا يدعو لطمس هذا المصطلح! وإنما ينتظر من الناس أن يدفنوا تلك المفاهيم النابتة على أرضه، ومنها امتهان الرموز، واحتقار الإنسان حين اختارهم! وهذا مع عظيم الأسف ما يمارسه المسلمون يوم أن أصبحوا طوائف لا ترى لغيرها حق الحديث، ولا تسمح لمخالفيها بالكلام، فخاض كل فريق فيمن يليه، تمزيقاً، وسباً، وشتماً، احتقاراً للماضين من أهله والتالين، ولم يبق لبعضنا أمام بعض حرمة، ولا حق؛ لكننا حين جرى لقدوتنا عليه الصلاة والسلام ما جرى، قمنا جميعا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فهل فعل الأقزام برموزنا شيئا، لم نفعله نحن بالآخرين من المخالفين لنا، والسالكين غير طريقتنا؟! من يُطالب أيها المسلمون العالم باحترام الرموز، وتقديرها عليه أن يعي أنّ لذلك تبعات، منها أن يقبل بحرية الناس في اختيار رموزهم، فلا يتعرض لها، مهما كانت بعيدة عن الحق الذي يدين به، ويميل إليه، وإن لم يفعل وهذا للأسف ما يقع فيه كثير منا اليوم فدعوته مراد منها أن تُحفظ رموزه هو عن النقد والعيب، وأما الآخرون فرموزهم مباحة؛ إذ لا حق لهم في اختيار الرموز بغير الطريقة التي يؤمن بها، والقالب الذي ينظر من خلاله، فهل في مقدور إنسان كهذا أن يواصل وهو أول العابثين بدعوته في نصرة ما قام له، وانبرى لتأييده؟ علينا أيها السادة أن نعي بتبعات ما ندعو إليه، فهل سنكف عن رموز المذهبيات الأخرى، التي نراها في ضلال مبين؟ وهل سنكف عن رموز الديانات الأخرى!؟ إن كنا سنفعل وهذا ما أتمناه، وأراه بعيدا فدعوتنا في مكانها، والله تعالى يقول:" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوى بغير علم" وإلا فستكون دعوتنا ككثير من الدعوات التي نحث عليها لظرف طارئ، ونتداعى نحوها، ثم ننتهكها بعد أن يخفت صوته، ويغيب أثره! إن كنّا أيها السادة الفضلاء عازمين على التداعي إلى سن قوانين في مسألة الرموز، فعلينا أن نتفطن جيداً للقيود التي نرسمها لأنفسنا مستقبلا في التعامل مع غيرنا من قريب أو بعيد! فلا نطالب اليوم بحفظ حقوق نبينا عليه الصلاة والسلام ثم لا يطول بنا الزمن حتى نسمع من يسب رموز الآخرين، ويشتمهم، بل يرى شتمهم وانتقاصهم جزءا من دينه، وركنا من أركانه! إننا حينئذ مطالبون أن نعاقب هؤلاء قبل أن نطالب بمُعاقبة من يعتدي على رموزنا، فنحن أهل الدعوة، وأهل الدعوات أولى الناس بها، وأحْراهم بالدفاع عنها. من غريب الأمر أنّنا جميعاً نتحدث عمّا صنعته الشعوب الأوروبية في تحولها من حال إلى حال، نتحدث عما قامت به تلك الشعوب في مواجهة الكنيسة ورجالها، فحيّدتهم، وأجبرتهم على ترك قيادة الحياة، وفتحت أبواب النقد عليهم، وعلى الأديان التي يدّعون أنها تنزيل من حكيم حميد. لم تستطع أوروبا تقزيم دور الدين ورجاله لولا النقد الجارف الذي قام به رجالها، وسعى به فلاسفتها، نقد كان أحد أركانه امتهان رجال الدين، وازدراءهم، مما جعل إنسان تلك الشعوب ينسحب شيئا فشيئا من فيالقهم، ويُغادر محاضنهم، ففقد رجال الدين بذلك قدسيتهم، وأصبحوا بشراً من الناس، يؤخذ منهم، ويرد عليهم، يُطاع أمرهم تارة، ويُرد تارة أخرى، وما كان ذلك لولا الحملة النقدية الشديدة التي أبت إلا أن تجعل هؤلاء في مصاف البشر الآخرين، لا ميزة لهم تُنجيهم من النقد، ولا حرمة لهم تصونهم عنه. إن نقد الدين ورجاله كان جزءا رئيساًً في فتح نوافذ التحول في حياة هذه الأمة، وهذا معناه أننا حين نتكلم عن الرموز الدينية معهم نتحدث عن شيء لم يعد كثير منهم يؤمن به، وهو شيء كشفته فلسفاتهم، ومن ذلك فلسفات الإلحاد، وتلك التي تنظر إلى الأديان كطور من أطوار البشرية! وهذا يكشف لنا أن الغرب بثقافته اليوم يرفض من حيث المبدأ فكرة الرموز، فما نقد الأديان أمة من الأمم كما نقدها الغرب وفلاسفته في هذا العصر! وهذا بالنسبة لنا شيء صعب جدا؛ لكن ينبغي علينا أن نفهم الحال في ضوء ثقافة الغرب نفسه التي لم تترك شيئا إلا نقدته! نعم قد نرفض هذا الشيء؛ لكن رفضنا لن يغير من الأمر شيئا، ويكفينا أن نتذكر مثلا الموقف المشهور للماركسية من الأديان! أو موقف الوضعية منها، فهل سمعتم أن الغرب طارد المنتمين لهما؛ لأنهم تجاوزوا الحدود في نقد الأديان؟ علينا قبل أن ندعو إلى شيء أن نتبصر في قبول أرضية الآخرين له، فذلك خير لنا من أن نقدم الدعوات تلو الدعوات، ثم لا مجيب لنا، ولا سامع لرأينا، علينا أن نتحسس الأرض التي نضع فيها البذرة قبل أن نتحين ثمارها! هذا تصور عن علاقة أوروبا بالدين ورجاله نقوله جميعاً، ويتحدث عنه مختلف أطيافنا، ونتيجته أنّ الغرب لا يفهم هذا الخطاب الذي نوجّهه إليه، أفلا يجعلنا هذا نقنع بأن الغرب لا يؤمن بالرموز؛ كما نؤمن بها، ولا يحفل بما نهتم به، ونصارع من أجله؟ وإذا كانت هذه حاله في موقفه من الرموز، وخصوصاً رموز الدين، أفلا يكون من الخير لنا أن ننهج نهجاً آخر غير هذا الذي نسعى به إلى المطالبة بإيقاع العقوبة على من امتهن الرموز، وأساء إليها؟ إننا حين نتمحور حول هذا المنطق، ونسعى جاهدين أن توضع قوانين تُعاقب من يجترئ على الرموز، ويمتهنها، نسوّغ بعملنا هذا بعض ما يقع من فوضى إثر ذلك؛ لأن الناس يظنون أنّ رموزهم هي التي تُمتهن فقط، وهي التي تتعرض للهجوم وحدها، على حين يعرف الجميع أنّ الغرب خاصة هدم جميع الرموز، وأطلق للإنسان حريته، ومع إنكارنا كمسلمين لهذه الحرية المطلقة، إلا أنها اختياره، والقاعدة التي جرت عليها شعوبه، وليس لنا طريق حين نريد تغيير هذه الأرضية إلا عبر البوابة التي يؤمنون بها، وهي الديمقراطية، ومن ثم فنحن أمام طريق طويل جدا، إذا كنا نسعى لسن قوانين تُجرّم وتُعاقب من يطال الرموز؛ لكنه مع طوله لا بدّ أن يحتفّ بما نؤمن به، فلا يصدر منا انتهاك لحقوق الناس، وامتهان لهم وإلا فستكون دعوتنا أشبه بكثير من دعواتنا التي تقوم على مبدأ القول وحده، وترتكز على الكلام دون الفعل، والله تعالى قد خاطبنا منذ قرون قائلا:" يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون" فمن يطالب بحفظ الحقوق، ويدعو الناس إليه، يُظن به أن يكون أول مَنْ يمتثل الأمر، فيجتنب كل ما يعوق دون تحقيقه، وإلا نفعل، وهو الأقرب مع عظيم الأسف في ظل الفوضى القائمة، فستضيع هذه المبادئ، وتصطدم الدعوة إليها بجدار الصمت كالعادة! ولعل ما قامت عليه الحضارة الغربية، وثقافتها من حرية لا تعرف الحدود! هو السبب وراء عدم تحول فكرة صيانة الرموز إلى دعوة جادة! مما يجعلنا أمام قضية عويصة، فما نحن بواعين بالطريق الأصلح في نيل ما نصبو إليه من توقير الرموز الدينية، ولا هم بقابلين إقفال باب الحرية، وبين هذين الأمرين تضيع الدعوة، ونبدو للناس أنصار مناسبات، لا أنصار مبادئ ومثل!