الانفتاح على المذهبيات، والدعوة إليه ومن شواهده مؤتمر التضامن في مكة هو المنجل الذي سيحصد سنابل المذهبية؛ لأنه سيضمن تعزيز موقف الأحرار في كل مذهبية، ويُغري الجمهور بالإصغاء لهم، وتصديق خطابهم فيما يقولونه عن الآخرين، الانفتاح على المذهبيات بادرة حسنة، تُقوّي موقف الأحرار، وتُظهر لجماهير كل مذهبية أنّ في الآخرين خيراً، وفي أيديهم صواباً، وأنهم سعاة إليه، وبهذا تضعف صولة المذهبيين الذين لا يَهِنون في بثّ كل ما يُفاقم الفرقة، ولا يَنُونَ في إذاعة ما يُوسّع رقعتها، فالانفتاح سد منيع أمام طوفان الكراهية التي ينفخ في كيرها المذهبيون من كل طائفة، وحين يُدَشّن الساسة المسلمون هذه الفكرة، ويصدقون في تبنيها، ويجعلونها هدفا من أهدافهم، فذاك نصر كبير لدعاة الحرية، وفتح جديد يتم فيه تنشئة عقل إسلامي حر، يبدأ سبيله الطويل في نزع قميص المذهبية الضيق! الانفتاح على المذهبيات بادرة حسنة، تُقوّي موقف الأحرار، وتُظهر لجماهير كل مذهبية أنّ في الآخرين خيراً، وفي أيديهم صواباً، وأنهم سعاة إليه، وبهذا تضعف صولة المذهبيين الذين لا يَهِنون في بثّ كل ما يُفاقم الفرقة، ولا يَنُونَ في إذاعة ما يُوسّع رقعتها لا تملّ المذهبيات الإسلامية ورجالها من الحديث عن الوحدة، وتماسك الأمة؛ لكنه حديث للاستهلاك الإعلامي، ليس غير، إذ هي ممن يُنَظّر للفرقة، ويُؤسس لها، فرجالها يتحدثون فقط من باب الأمل دون العمل عن الوحدة، وآمال الاجتماع، ولم الشمل. كلام عاطفي، يُصدقه المنتمون إلى هذه المذهبيات فقط، والمؤمنون بها، ويفهمونه وفق تصورات مذهبياتهم، فهو اجتماع وفق أفهامهم للدين، وعلى ما يظنونه منه، دعاوى السكوت عنها خير من الحديث فيها؛ لأن الحديث عن الوحدة لا يُفهم إلا في ضوء وجود المخالف والمباين، ولا يُستساغ إلا إذا كان الناس شتّى في آرائهم ومشاربهم، فأما إذا كانت عقولهم نسخاً مكرورة، وانتماءاتهم واحدة غير معدودة، فما للناس والحديث عن الوحدة، وما لهم وقضاء أوقاتهم في شيء، لم يدع واقعهم إليه، ولم تستجد حاجة إلى وجوده! حين تأخذ الوحدة والحديث عنها مكاناً في الخطاب الإسلامي المذهبي يجزم السامعُ أنّ وراء الحديث أفقاً واسعاً للنظر إلى المخالف، والتعامل معه، والرضا به، وبما يطرحه؛ لكنه يُفاجأ أنّ ذلكم الخطاب كان مُوجّها فقط لأنصار هذه المذهبية أو تلك، فثمة اشتراطات كثيرة عند هذه المذهبيات في مَنْ تعزم على إقامة عقد وحدة معه، وتبرز هذه الاشتراطات في المجال النظري، والمجال العملي الواقعي، وهما دليلاي هنا حين تجاسرتُ، وعزوت إلى المذهبيات الإسلامية أنّ بنيانها المذهبي لا يسمح لها بالحديث عن الوحدة، ولا يُخوّلها أن تتكلم باسم الدين عنها، وإنْ كان من مكملات الواجهة المذهبية مثل هذا الحديث فليكن عن الوحدة المذهبية، ولَمِّ شعث المذهبيين! فهذا ما يُظن بمن يؤمن بالمواءمة بين قوله ومعتقده، ويجزم بصدور القول عما تُكنّه النفس، ويحتويه الضمير، ويرى لزاما على المتحدثين أن تخرج أقوالهم وفق ما يضمرونه، ويُحاسبهم فيها على ذلك، ويسعى جاهدا للهرب من الاتصاف بالنفاق الفكري، ومنابذة القول للرأي. الفرقة التي جرّها الإسلام المذهبي ورجاله على الأمة منذ مئات السنين، لها تأريخ مديد، وعمر طويل، فرقة رسّخها التقليد، وعمّق أسسها احتجاز العقل، ولن تُقاوم بالوعظ وأدبياته، ولا بالحديث المصادم للفعل، فكل ذلك لن يصنع لنا شيئاً، ولن يُغيّر واقعا. تُقاوم بدراسة الفكر الديني نفسه، الفكر الذي يدّعي جميع أطرافه العلاقة الحميمة بالنص، تقاوم بالبحث فيه وراء مظاهر هذه الفرقة فقد جرت عادة الناس قبل أن يشتكوا من شيء، أو يصلحوه، أن يبحثوا في أسبابه، ويتقصوا ما استطاعوا علله، فنحن اليوم نجتهد في دراسة أسباب فشل مشاريعنا الفردية، ومشاريع مؤسساتنا الحكومية داخل دولنا، فما لنا لا نسعى بجد في تفسير فشل مشروع الإسلام في الوحدة على أيدي المذهبيات والمؤمنين بها؟ لماذا لا نتجه جميعا على اختلافنا إلى التراث المذهبي؛ لنرى ما نؤمن به، ونعتقده في علاقتنا مع مخالفينا، ومؤثري غير مذهبيتنا، ونضعه أمام إرادة الله تعالى لنا في أن نكون أمة واحدة مع قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام :{ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك؟ يذكر سادتي القراء حديثي حول حديث الافتراق، ويتذكرون نصه، في افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة، ويدركون أيضا توظيفه في اتجاه، لا يخدم قواطع الدين، التي جاءت بالوحدة، وأتت بفتح باب الاجتهاد، وزرعت في وجدان المسلم الخالي قلبه من سطوة المذهبيات أن الدين الذي يحثه على الوحدة، ويدعوه إليها، هو نفسه الذي أذِن له بالاجتهاد والنظر، واستعمال العقل، فخلص بعد ذلك إلى نتيجة واضحة نقية، هي أنّ الكلام في الوحدة يعني شيئاً واحداً، يعني الوحدة مع المخالف في الرأي، والاجتماع مع المفارق في المذهب، ومن لا يعي ذلك، ويتهيأ له، فما من حقه أن يتكلم عن الوحدة، وجمع الكلمة. وللتدليل على مشاركة المذهبيات الإسلامية في استنبات الفرقة، وسقي جذورها، أُذَكِّركم بحديثها عن المبتدع، والموقف منه، المبتدع الذي لم يعد منذ أزمان طويلة فرداً في جماعة، يسهل التضييق عليه، والاحتراس منه، المبتدع الذي تحوّل إلى تيارات كثيرة، لها جماهير عريضة، وأنا هنا أتحدث في وجه كل مذهبية، هذا التحول وضعنا أمام تشكلية كبيرة من المذهبيات، تُجبرنا على طرح الأسئلة التالية: أليست كل فرقة من هذه الفرق تُبَدِّعُ أختها، وتراها مستحقة للنار إلا أن يعفو الله تعالى عنها، ويتجاوز عن بدعتها؟! أليست كل فرقة تدعو أتباعها إلى اعتزال الطوائف المبتدعة، ومجافاتها، والازورار عنها، هذه هي ثقافة المذهبيات، أو ما يُسمّى بالإسلام المذهبي، فماذا سيحدث عزيزي القارئ حين يتم تطبيق هذه الثقافة التي ينسبها كل فريق إلى الإسلام؟ الذي سيحدث في ظني انفصال كل مذهبية في دولة مستقلة، فتكون دول الإسلام من حيث العدد حسب اختلافاتها المذهبية، هذا مصير محتوم، لا مفر منه، ما دامت كل فرقة تشغل نفسها بمذهب الأخرى، وترى الحق لها في الوصاية عليها، وتبني بعد ذلك موقفها منها عليه، وستضطر كل مذهبية في حال اشتداد الشعور بالوصاية على الأخريات أن تدخل معها في حرب حتى تُعيدها إلى الصراط المستقيم، وهكذا نخرج من هذه الثقافة وفشوها بأمرين، أحلاهما مر! شتات وفرقة أو صراع وحروب. ويشتد شتاء الفرقة على الأمة، ويمتد زمنه، حين تشيع هذه الثقافة من المخالف، فرداً كان أو جماعة، على ألسنة الجماهير، كما يحدث اليوم، ويتناقلها صغار المتعلمين، الذين يعيشون اللحظة، وينغمسون فيها، ويغفلون تماماً عن المستقبل، وما يجره عليهم تناديهم إلى ذلك، تهمهم جزئيات مذهبياتهم أكثر من وحدة، عمودها الوئام والتغاضي، وحدةٍ تسمح بسيرورة الخير، وانتشار الصواب، وحدةٍ تُبْعِدُ الإنسان عن عرينه المذهبي حين لم تهتم بها، ولم تلق له بالاً. وحين تطغى المنظومة المذهبية في مجتمع، وتدفع بها الظروف إلى سطح الوعي، وتضعها تحت الأضواء، تضطره إلى اتخاذ خصوصيتها في النظر إلى الإنسان، والتعامل معه، فتندفع المذهبيات إلى تحصين أفرادها، فتخرج لنا قوانين جديدة من مثل: من لم يُبَدِّع المبتدع فهو مبتدع، وتُجرى هذه القوانين على الجماعات، فتزرع بذرة النزاع، ويضحي المجتمع ينتظر من يشب فتيل الأزمة، ويُحرق عود الثقاب، وأمثال هؤلاء في عالم اليوم عددُهم يتنامى، ولا ينقص! من الخير للإنسان أن يلتفت إلى عيوبه قبل عيوب الناس، وينهمك فيها أكثر من غيرها، هذا معنى نتذكره دوماً، ونعيده على أسماع الناس، وإن جرت الأحداث بنا كثيراً بعيداً عنه؛ لكنْ خير من ذلك أن نلتفت إلى أخطاء جماعتنا، وزلات أهل مذهبنا، ولن يخطر في بالنا ذلك ما لم تتخلّص كل مذهبية من دعوى كمال المذهب، وصواب القول، فذاك الذي صنع بنا الأفاعيل، وأودى بنا في العالمين حتى أضحينا لقمة سائغة للغادي والرائح! ومن حالنا الغريب أننا لا نفتأ نتحدث عما يقوم به الغرب، حين يدرس مجتمعاتنا، فيعرفها أكثر منا، ويستغل نقاط ضعفها، ومنها المذهبية الدينية؛ لكننا نقول هذا فقط للتذكير بمعرفتنا به أمام الجمهور، ثم ننسى أننا، حين نتدافع إلى تطبيق فقه الموقف من المخالف، جزء من العينة، التي يستعين بها الغرب، ويضرب بعضها ببعض! نُمكِّنه بصراعنا المذهبي من تقسيم الخارطة حسب الطوائف الدينية، ثم نلومه على أذيتنا، والتعدي على حقوقنا، نفعل ذلك، ولم ندر أن بذرة الانقسام ونبتة الشتات فينا، وأنّه لو كان مكان الغرب شرق أو جنوب أو شمال، ما وسعه أن يفعل لنا غير ما صنعه الغرب؛ لأن ذلك - بأوجز عبارة - هو ما أردناه لأنفسنا! وسيبقى السؤال المؤلم: حتّامَ تظل المذهبيات الإسلامية تصوغ واجهتها في العلاقة بالمخالف حسب حلم عدم اختلاف الناس! إلامَ تُرهن مقاصد الإسلام العظمى في وحدة الناس بتصورات، لا يخدمها الواقع، ولا يشهد لها التأريخ، ولا يؤيدها العقل! إلامَ نظل نحلم بوحدة تحت مظلة ضيقة، لا يسع ظلُّها إلا لعُشْرِ مِعْشارِ أمة الإسلام؟! إلى متى تظل الوحدة الإسلامية شجرة لا ورق لها، وبيتاً لا أعمدة له؟!