أكثر الناس، في القديم والحديث، يرون عيوب الآخرين، ولا يرون أنفسهم.. لماذا؟! لأن الإنسان يحب نفسه.. فحب النفس طبيعية.. والمحب لا يرى عيوب المحبوب.. وعيوب المعجب بنفسه أو بغيره قلما ترى العيوب وإن رأتها صغرتها.. لكن عيون السخط والحسد ترى عيوب الآخرين بمجهر شديد التكبير، وتضع فيهم من العيوب ما ليس بموجود، وتضيف لعيوبهم البريئة والصغيرة إضافات خبيثة وكبيرة، كما تعمى عن محاسنهم وحسناتهم: (وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكنّ عين السخط تبدي المساويا) والمثل الشعبي الناضج يقول: (كل بعقله راضي.. لكن بماله لا) فالأحمق.. والحاسد.. والحاقد.. كل هؤلاء راضون عن عقولهم غاية الرضا.. وبالتالي لن يروا عيوبهم فضلاً عن أن يعترفوا بها، وكيف يعترفون بشيء لا يعتبرونه موجوداً أصلاً؟ * ثم إن أكثر الناس يحملون أخطاءهم وعيوبهم على محمل النية الحسنة، وأنها الجانب الآخر لمحاسن يؤمنون بوجودها فيهم.. * ولاشك أن المحاسن إذا زادت تأتي معها بالعيوب، فالكرم إذا جاوز حده صار إسرافاً، والشجاعة حين تفتقد الحكمة والرأي تصبح تهوراً ومجازفة، والتحفظ إذا جاوز الحدود وخنق التصرفات وخلق حالة من التردد والجمود يصبح تخلفاً وجبناً وإن حسبه أصحابه عين العقل.. فالمتنبي يقول: (يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم) * والذي لاشك فيه أن البشر خطاؤون، وخير الخطائين التوابون، كما ورد في الحديث الشريف، وأنه لا يوجد إنسان كامل سوى الأنبياء المعصمومين عليهم الصلاة والسلام.. * كذلك مما لاشك فيه أن المغرم بنشر عيوب الناس، وتتبعها، والتنقيب عنها والتهويل في وصفها، هو إنسان مصاب بالنقص، مريض بالحسد والحقد، يضر نفسه قبل غيره، ويأكل بعضه بعضاً بحسده وحقده، فهو كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.. ومن سوء حظ (هؤلاء الأجناس المناكيد) الذين يفتشون عن عيوب الآخرين، وينشرونها ويشيعونها ويزيدون فيها ويختلقون، لا يكادون يفعلون ذلك إلا مع الناجحين البارزين، الذين هم أعلى منهم مكانة وأرجح عقلاً وحكمة وأجمل سلوكاً وأخلاقاً، كما أن هؤلاء الكارهين للناس وخاصة الناجحين، والذين همهم البحث عن عيوب الآخرين، هؤلاء هم الأكثر عيوباً، والأوضح نقائص، والأكره لدى الناس.. * * * * يقول الشاعر: (أرى كل إنسان يرى عيب غيره ويعمى عن العيب الذي هو فيه وما خيرُ من تخفى عليه عيوبه ويبدو له العيب الذي لأخيه) وللشاعر أحمد البهلول: (رأيتُ العيب يلصق بالمعالي لصوق الحبر في لفق الثياب ويخفى في الدنيء فلا تراه كما يخفى السواد على الإهاب) فالذي ثيابه بيضاء ناصعة (كناية عن كرم الخلق) يرى فيه الحاسد والحاقد أي نقطة عيب صغيرة ويكبّرها ويشهّرها لأنها على صفحة بيضاء. فتكون ظاهرة، فالحصان الجيد تجد فيه عيوباً أما الرديء فعيبه واحد وهو انه رديء. أما ذو الثوب الأسود القذر (كناية عن سوء السلوك والخلق) فلا يلتفت له أحد ولا يحسده أحد فقد غطته العيوب فلا داعي للتشهير والتظهير فهو قد شهر بنفسه، وهذا النوع عداوته مصيبة أما صداقته فغير واردة إلا لدى الأنذال مثله.. قال علي بن الجهم: (بلاء ليس يشبهه بلاء عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضاً لم يصنه وينتقصك في عرض مصون) أعوذ بالله! * * * * ومن الشعر الذي سار على الألسن في هذا المجال (وهي تنسب للشافعي): (إذا أردت أن تحيا سليماً من الأذى ودينك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعيناك إن أبدت اليك معايباً فدعها وقل: يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن) * * * * ولشاعرنا الحكيم راشد الخلاوي: (ولا عاب قوم قطّ الا حسودهم ومن عاب شخص عاجز عن مراتبه ومن عاب شخص قبل يبصر بنفسه يرى فيه ما لا ينحصر من معايبه وكم حافرٍ بيرٍ خباها لغيره فامسى خديع ذاق فيها معايبه ولا ضرّ بدر التمّ في رابع السما ما بات كلب نابحه في غياهبه! ولا ينكدر بحر ولا ضرّ موجه لا ضفدع بالت بطامي غبايبه! ترى حسد الحساد ما ضرّ غيرهم ولا حاق مكر السو الا بصاحبه) * ولابن لعبون: (خذ ما تراه وخلّ عنك الخماكيرُ من شق ثوب الناس شقوا وزاره)!