الطعام من لذائذ الدنيا، وهو في الاصل حاجة لا انفكاك للانسان عنها، وقد تزينت أصناف الطعام في الشكل واللون والرائحة والطعم لتغري الانسان وتستهويه وربما تغويه !!.. وعندما يتخيل الانسان او يضع داخل نفسه ان هذه اللقيمات إنما هي مهمة آلية يقوم فيها تلقائيا بمسك تلك اللقيمات ليرمي بها داخل بطنه ليسكت جوعها، او ليقطع وقت الانتظار، او ليتشاغل عن همّ او يتناسى بعض الغموم، فهو يفوت على نفسه سعادة من سعادات الجنة ولذة من لذائذ الخلد، ودواء من ادوية الخالق في الطبيعة للنفس قبل البدن.. وقد تجد على سفرة طعام واحدة من يأكل ويتمتع بمأكله ومشربه، ومن يأكل وكأنه يتخلص من مهمة ثقيلة على عاتقه اسمها الجوع، وشتان بينهما.. كيف يتمتع بلذة الطعام من كان طوال يومه وهو يأكل لقمة من هنا ولقمتين من هناك، كيف يتلذذ بطعم الاكل وهو لم يذق قبلها لسعة الجوع، وكيف يحس بلذة الشبع وهو لم يعرف ألم الحرمان؟ وكيف يتمتع بالأكل من كان طعامه طوال الوقت بين يديه وتحت ناظريه، لا يمنعه عنه الا ان يمد يده ثم يفتح فمه ليلوكه بطريقة آلية ثم يقذف به الى المعدة المجهدة، هل يستوي هو ومن وضع لطعامه جدولا زمنيا فرتب الامور وعلقها على عنصر الزمان، الذي ارتبطت به عمليات الموت والحياة والشبع والافراغ، وهو صنيع البشر منذ وجدوا حيث ربطوا الطعام بالوقت فسموا العشاء بوقت العشاء والغداء بوقت الغداة، فالنفس في شهواتها كالطفل قبل الفطام، إن تفطمه ينفطم .. وكيف يحس بطعم الاكل ولذته، من يقوم عن طعامه وقد سد جميع فجوات البطن وملأ تلافيفه وخباياه، فلا يجد للهواء مسلكاً، فيقوم مترنحاً من الانهاك والتعب والتخمة لا يكاد يطيق نفسه فضلا عمن بجانبه، فيبحث عن اريكة يرمي بنفسه عليها حتى يغط في نوم عميق ينسيه ألم الشبع وحرقة المعدة وصعوبة التنفس، ولذلك ابتكرت تلك العقول الأكولة الشراب الغازي وسمته في زمن مضى بالهاضوم، ونكهات متعددة من شراب الشعير والبيرة، وانواع الشاي أخضره ومره وأسوده، وحلويات مابعد الدسم لتسريع الهضم، وادوية مبتكرة ومتجددة للهضم والحرقان والتخمة والتلبك المعوي والغازات الكريهة، وكل شيء يمكن فعله امام إدمان الطعام والتشبع منه حد التخمة !!. وكيف يتلذذ بالطعام من يخلط لحم البحر بلحم البر، والموالح بالحوالي، والحوار بالبوارد، كيف تجتمع التناقضات في وعاء من لحم وعضل، مسكينة هذه المعدة التي لولا رمضان لما عرفت الراحة لساعات معدودات، ثم تعاقب بعد أذان المغرب بالاعمال الشاقة جراء جريمتها حين نامت كثيرا ثم افاقت لتقرص بالجوع .. أقول شتان بين أولئك، وبين، من عرف ماذا يأكل ومتى يأكل، وقبل ذلك عرف وفهم واستوعب لماذا يأكل !! شتان بين من يمسك الطعام بالاصابع الخمس، وبين من يأكل بثلاث اصابع كما كان يفعل معلم الخير صلى الله عليه وسلم .. وشتان بين من لا يأكل حتى يجوع، واذا اكل لم يشبع، وبين من يربى على مقولة (اذا اكلت كل اكل الجمال)، بمعنى كل بسرعة وبكل طاقتك، وشتان بين من يدير الطعام في فمه يتلذذ به يقلبه ويمزمزه، ويهز راسه تجاوبا مع كل نكهة، ويأخذ نفسا عميقا بين كل لقمة واخرى وكأنه يعيش كل دقيقة بكل مافيها، ويحمد الله على هذه النعمة ويثني بالشكر على صانع الطعام من ام او زوجة فيدخل على قلبيهما السرور بالكلمة الحلوة كما ادخلت على قلبه قبل بطنه السرور والسعادة، ويقوم عن طعامه قبل ان يشبع منه، مطمعا نفسه بأن يأكل منه في العشاء، او ربما يتغدى منه غدا، ربما كان هذا الكلام ثقيل على مسامع العقول الاكولة، ولكن الهوى صنم لابد أن يكسر.. وعلى دروب الخير نلتقي، وكل عام وانتم بخير ..