مازالت المطابع تنتج سنويا أعدادا كبيرة من الروايات السعودية، ومازالت هناك عناوين ترصف وتتجاور على أرفف المكتبات، ولم تكن طفرة الروايات المحلية ومضة عابرة اشتعلت وخبت كما اعتقد البعض، بل مازال هناك دفق سردي ينهمر بشكل سنوي! يرتاد الأماكن ويقتنص الشخصيات ويرصد التواريخ، وبحسب بيبلوجرافيا قام بها (خالد اليوسف) فقد صدر عام 2011 فقط (100 رواية محلية)! وعند مقارنة هدا العدد مع انتاجنا الروائي قبل جيل أو جيلين سنعرف أن هناك طفرة روائية قد تقترب من الظاهرة التي تستوقفنا أمامها، مثيرة عددا من علامات الاستفهام؟ - هل هذا النهر السردي الغامر هو التفاف وتحايل على الخطاب الرسمي للتاريخ الذي يحاصرنا إعلاميا وعبر المناهج المدرسية، فتكون عندها الرواية هي محاولة شعبية لكتابة تاريخ جانبي خاص ومنسي؟ فنعرف أن التاريخ هو قصة النخب، وحكاية العظماء والفاتحين والمنتصرين، بينما يظل هناك في الظلال والهامش حشود منسية يطويها ويغفلها الزمن، فهل تجرب هذه الحشود أن تكتب تاريخها المهمل.. عبر الرواية؟ هل هذا الارتباك والغموض في الهوية يجعل الرواية كمرآة يحاول أن يرى فيها المجموع وجهه وصورته الذاتية وليس الصورة الرسمية؟ - أو هل الرواية هي محاولة اقتناص لحظات هاربة؟ فبعد الطفرة الاقتصادية محليا حدثت حالة انقطاع تاريخي مع الماضي فبات الماضي يثير نوستاليجا وحنينا غامرا، فيحاول البعض القبض على تلك السنوات الفارطة المتفلتة ويؤطرها كصورة ثمينة داخل رواية، فالمدن والقري القديمة داخل اقتصاد شبه زراعي شحيح بسيط كان لها حكايتها، كل مدينة كان لها قصة وكل قصة يجعلنا الشجن والحنين نظن بأنها تستحق الكتابة والتوثيق، لاسيما بعد أن اندثرت معالم تلك القرى والبلدات والتقم ملامحها (وحش الأسمنت). الروائي (نجيب محفوظ) وصف الرواية بالفن الذي يُوَفِّق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال. - أخيرا؛ قد يكون الأمر ببساطة أن الرواية تحولت لمنشور اجتماعي، أو ركن المتحدثين، أو برلمان المنسيين، فالذي يطالع بعضا من هذه الروايات سرعان ما سيصدمه الخطاب الإعلامي الصحفي بها، أو الطرح المنبري الوعظي والذي يرصف بطريقة تغيب فيها الحرفية الفنية، وتحول النسيج السردي إلى معروض يقدم إلى وزارة خدمية. - هل هي سيكولوجية القطيع التي تتلاشى بداخلها الفرادة الإبداعية والحرص على الأصالة والتفرد، واستبدالها بتقليد ما هو رائج ومطروح في الساحة الإبداعية؟ الرواية هذا النوع الأدبي الحديث على نسيجنا الأدبي ما برحت تطوقه أسراره المستعصية.. يقول الروائي جوزيه ساراماجو، أول كاتب باللغة البرتغالية يفوز بجائزة نوبل في الآداب.. في طفولته كان يقضي إجازاته مع جديه في قرية اسمها ازينهاجا. حين أصيب جده بالسكتة وأخذوه إلى العاصمة لشبونة ليتلقى العلاج، يقول ساراماجو: "ذهب جدي إلى باحة منزله، حيث توجد بضع شجرات، تين وزيتون. وتوجه إلى شجراته واحدة بعد أخرى، يعانقها ويبكي، ويودعها لأنه كان يعلم أنه لن يعود إليها". يقول ساراماجو: "أن ترى هذا، أن تعيش هذا دون أن يترك بصمته عليك لبقية عمرك فأنت إذن بلا مشاعر". ويربط ساراماجو بين هذه الحادثة، وبين بواكير تفجر ميوله الأدبية. بالتأكيد ليس بحوزتي إجابة قاطعة تفسر ظاهرة الجيشان الروائي المحلي، بل أعتقد أن الأمر بحاجة إلى دراسة علمية مستفيضة يتداخل بها الاجتماعي مع التاريخي والأدبي، عندها قد نحصل على بعض من إجابة.