شاهدت مؤخراً فيلم "إلى روما مع التحية" للمخرج المعروف ودي آلن. فيلم جميل وخفيف الظل، ولكني في الواقع لم استمتع فيه أكثر إلا بعد أن قرأت كتاب "وودي آلن عن وودي آلن"، وهو عبارة عن مقابلات مطولة ومفصلة مع آلن قام بها الصحافي السويدي ستغ بجوركمان. الكتاب لم يترك شيئاً تقريباً من حياة وأفلام وذكريات آلن إلا وتعرض لها، وفي مرات عديدة يبدو أن الصحافي أكثر اطلاعاً من آلن بتجربة المخرج نفسه. لم يتحدث عن فيلمه الأخير، ولكن من السهل لقارئ الكتاب أن يفهم فلسفة ورؤية آلن في العمل السينمائي المنعكسة على مجمل أفلامه. مزاجه السينمائي أوروبي أكثر منه أمريكياً المتعة تكمن أكثر عندما تحدث عن أفلامه القديمة مثل فيلمه الجميل "Alice" الذي يقول آلن إنه تعمد أن يركز فيه على حياة طبقة من النساء الثريات في نيويورك، وذلك عبر شخصية أليس التي كانت تشتكي من آلام جسدية تعود في حقيقتها إلى حياتها المفرغة سوى من حضور المطاعم الفاخرة، والاعتناء بالكلاب الصغيرة. ذهبت أليس إلى طبيب هو في حقيقته ساحر استطاع أن يجعلها تخرج من جسدها وترى حياتها من منظور آخر. وفي فيلم "Annie Hall" تحدث عن عدم استخدامه للموسيقى على عكس أفلامه السابقة، كما أشار إلى أنه أراد من خلال هذا الفيلم تقديم فيلم أعمق ويحمل نكهة مختلفة عن أفلامه السابقة. وفي فيلم "Sweet and lowdown" قال إن الفنان شون بين كان هو السبب الذي جعل الناس يعجبون ببطل الفيلم التي يصعب الإعجاب بها، ولكن عبقرية شون، كما يقول، استطاعت أن تجد في الشخصية رابطاً يصلها بالجمهور. وودي آلن لكن الكتاب يعود إلى بدايات آلن وعلاقته مع الأفلام. يقول آلن إن علاقته بالسينما بدأت مبكراً جداً عندما كانت تصحبه قريبته وهو طفل لدور السينما في الحي الذي يسكنه في بروكلين في نيويورك. أصبح كما يقول يكره وقت الصيف لأن الأهالي يطلبون من آبنائهم أن يخرجوا إلى الشمس ويغطسوا في المسابح ويمرحوا في الحدائق. آلن الصغير لم يحب أياً من ذلك، بل يفضل أن يوفر كل ما لديه من مال لكي يشاهد الأفلام التي يذهب لها كل يوم إذا استطاع. من ذلك الوقت يقول آلن إنه كره الصيف وشعاع الشمس، وهو لا يزال يشعر بذلك، ولهذا السبب كما يقول انه يحب نيويورك وباريس بسبب أجوائهما الغائمة. يتذكر آلن أول تجاربه في السينما بصورة سيئة لا زال نادماً عليها. النص الذي كتبه في أول أعماله قامت الشركة التي تبحث عن التسويق ولا تهتم بالفن، بمسخه. يقول آلن في كل مرة اعترض فيها ب "بشاعة العمل" يردون عليه "إبقَ هادئاً". ولكن آلن الذي ينتقد هؤلاء المنتجين بمرارة ويصفهم بالفاقدين لحس النكتة والباحثين عن الحفلات والساعين لتوظيف صديقاتهم الجميلات غير الموهوبات، كان غير قادر على وقف الكارثة لكونه لا يملك المال ولا النفوذ. لكن هذا أعطاه الدرس الأهم منذ البداية وهو بأن لا يقوم بشيء إلا أن يكون هو المسؤول الأول والأخير. من هنا قرر آلن أن يبدأ الإخراج بنفسه الذي يقول إنه لم يجده صعباً. يسأله الصحافي مستغرباً وماذا عن التكنيك وزوايا تصوير المشاهد وغيرها. يرد عليه المخرج بأنه جلس مرة مع أحد المخرجين الكبار لكي يخرج منه بأكبر معلومات مهمة وخرج بلا شيء. بعد ذلك قرر أن المسألة لا تستحق. لكن في الحقيقة أن آلن قد تشرب العمل السينمائي وبشغف كبير منذ الصغر، لذا أصبح يملك نوعاً من الغريزة لطريقة صناعة الفليم كما يراها هو. غلاف الكتاب في موضع آخر من الكتاب يقول آلن عن هذه النقطة تحديداً ان الشخص الذي يريد أن يصبح كاتباً عليه أن يقرأ كثيراً حتى تصبح جزءاً من نسيجه الشخصي، وكذلك من أراد أن يصبح مخرجاً عليه أن يشاهد كماً كبيرا من الأفلام حتى تبدو المسألة له طبيعية. مزاج آلن أوروبي أكثر من كونه أمريكيا. ينتقد بشدة أفلام هوليود التي يقال انها تحولت في غالبيتها إلى مصانع لا علاقة لها بالفن، ويعترف أنه لولا الجمهور الأوروبي الذي يحرص على حضور أعماله في الخارج لتوقف عن العمل، بسبب ضعف المردود لأعماله في الولاياتالمتحدة. آلن ينتقد أيضاً طريقة التصوير واستخدام الضوء والظلال في الأفلام الأمريكية التي أصبحت تكشف وجوه الممثلين بالكامل، في الوقت الذي يبدي إعجابه بالفن الأوروبي الذي يحافظ على الفن بالرغم من ضعف الميزانية المتوفرة لهم. لكن حب آلن للأعمال الأوروبية بدأ منذ الصغر حيث تعلق بأعمال كبار المخرجين مثل فيلليني وبيرغمان، في الوقت الذي ينتقد أعمال الكاوبوي السطحية التي تعتمد على قصة متقاربة حيث يقوم الشاب الذي يفقد حبيبته، ومن ثم يكسبها في آخر الفيلم. الكتاب يكشف أيضاً عن صفات آلن الشخصية الخاصة. يتوقع المرء أن آلن الذي بدأ حياته المهنية ك"ستاند أبد كوميدي"- المهنة التي كرهها - شخصية اجتماعية، ولكنه على العكس تماماً. حياته كما يصفها منضبطة ومنعزلة تماماً، وتقتصر فقط على عائلته وعدد قليل من الأصدقاء. حتى أنه يتحاشى أن يختلط مع أشهر النجوم الذين يمثلون في أفلامه، حتى في البروفات لا يلتقي آلن معهم وإنما يجلس في الزاوية حتى يبدأ التصوير، ويبدأ العمل. يسأله الصحافي مستغرباً عن أهمية أن يفهم الممثلون ما عليهم فعله خلال التصوير. يرد عليه المخرج أنه يتركهم لأنفسهم، وكيف يرون القصة، لأنهم يعرفون -كما يقول- ما يجب عليهم فعله. أحياناً قليلة يتدخل آلن إذا كان هناك بعض الانفعال العاطفي، أو الأخطاء البسيطة. آلن مؤمن بفكرة أن تظهر الأشياء بصورة طبيعية جداً بدون أي محاولة للتصنع. في أحد الحوارات يقول انه في جلسة التحضير يطلب من الفنانين أن يبدوا طبيعيين، ويعبرون عن الشخصية وحتى صوتها كما يرون. فكرة النقاء الأولي تسيطر على طريقة تفكير وأسلوب آلن في العمل السينمائي. يشير إلى أنه في بداياته يعيد تصوير المشاهد ولكنه تخلى عن هذه العادة التي تعكس، كما قال، إحساسه بعدم الأمان الداخلي. وماذا عن مدة أفلام آلن؟ لماذا هي قصيرة مقارنة بغيره من المخرجين؟ يجيب آلن على هذا السؤال بالقول ان هذا شيء يعود لطبيعته وتركيبه النفسي حيث يشعر أنه ينهي ما يود قوله في ساعة وعشر دقائق تقريباً، على عكس المخرج الشهير مارتن سكورسيزي، كما يشير آلن، الذي يحتاج لأكثر من ساعتين حتى يشعر داخلياً بأنه أوصل فكرته. من أسرار نجاح آلن هو الانضباط الصارم. في نفس الليلة التي يفتتح فيها فيلمه الجديد، يكون قد بدأ بكتابة نص الفيلم الجديد. ويقوم آلن باستخدام آلة طابعة للكتابة يقول انه اشتراها من ألمانيا منذ مدة طويلة، ولا ينوي استبدالها بأي من الأجهزة الحديثة. في فيلم وثائقي عنه بعنوان "شاهدته مؤخراً" يظهر آلن وهو يطبع على آلته، وبجانبه عدة من المقصات والمشارط، لزوم الحذف والتعديل. وسائل التقنية الحديثة لا تصنع الإبداع ولكن الأفكار التي تخرج من العقل. عن هذه الأفكار يقول آلن انه لا يعرف من أين تصدر، ولكنه يقول انه هناك دائماً شيء يطبخ في اللاوعي، وبمجرد أن يلتقط الخيط الأول ينطلق في الكتابة المتواصلة حتى يضع يده على القصة وينتهي منها. آلن أصبح يستمتع فقط بالكتابة والعمل السينمائي وفرقته الموسيقية، ولا شيء سوى ذلك. لا تهمه الشهرة، أو مديح ونقد الصحافة. يقول انه منذ أكثر من 25 عاماً توقف عن قراءة كل ما يكتب عنه، لأنه لم تعد -بحسب ما يقول- تعنيه، ولن تمنعه من العمل. حتى أثناء انفجار قضية تطليقه لزوجته الممثلة مايا فارو، وزواجه من ابنته المتبناه سون يي، لم يعبأ ودي بكل ما كتبته الصحافة. يقول آلن إن القضية بالنسبة له باتت قانونية فقط، وكل ما نشر عن القضية هي من صنع الصحافة. يقول مؤلف الكتاب ان حواره مع آلن تأجل فقط من يوم الخميس للسبت، وعندما قابل آلن، لم يكن أبداً مشغولا بالقضية. آلن يرفض أن يحضر حفلات جوائز الأسكار أو غيرها، لأنه غير مقتنع أنه يوجد أفلام أفضل من الأخرى. وفي مرة أفاق من النوم ليقرأ صحف الصباح ليجدها تحتفل بفوز أحد أفلامه بجوائز الأوسكار. في الوقت الذي كان الكل يتحدث عنه، كان هو يغط في نوم عميق داخل شقته في نيويورك. لا يفعل هذا سوى وودي آلن.