منذ أن عرفته وهو الخائف من كل شيء.. المتردد أمام كل شيء.. يجزم أنه يئس من كل شيء.. أتعبه الزمن الذي لم يحنّ عليه يوماً بلحظة استمتاع.. دمرته الحياة ولم تقدم له كما يعتقد ما يليق بوجوده.. استمات في معايشة إحساس الحقيقة التي فرضها هو على الأرض بعد أن أحرقها.. وأرفقها بملف الشهود على قضية بأن لا شيء يمكن إصلاحه.. أو ضبطه خالياً من الشوائب وتعديله.. لديه قاموس مفتوح دائماً على صفحة مواد الاستسلام لكل ما هو مرير.. الرضوخ لكل ما هو مقلق.. الذوبان في سطور التعب.. والنقطة الأخيرة التي لن تأتي بعدها كلمات.. لم يفكر إلا في أن الكتاب وصل إلى صفحته الأخيرة رغم انه ليس الكتاب الوحيد.. وليس الجزء الأخير.. فهناك أجزاء أخرى مطبوعة.. ومعروضة.. وهناك كتب أخرى ينبغي التعامل معها.. وقراءتها.. وعدم تجاهلها.. ومحاولة استيعاب فصولها التي من المؤكد انها ستقدم شيئاً مختلفاً.. يستيقظ كل يوم محملاً بعبارات الضيق.. وأحاسيس الاختناق الكلي من كل شيء.. يبدو وكأنه استنزف نفسه على مفترق طرق يجهل اتجاهاتها.. أو كأن رحلته المفروضة والمخطط لها قد انطلقت من دونه ولم يلحق بها.. لا يحاول أن يخفي يأسه، أو يغلق عليه.. بل يسعى جاهداً بأن يشرع أبوابه للعابرين وكأنهم قد خلوا تماماً من يأس يعتريهم، أو يسكن دواخلهم.. من عبر من جانبه تجرّع مما لديه مضطراً.. وأحياناً مفروضاً عليه.. ما أن يمسك بالعابر حتى يدس له دون اعتناء بالوقت وتأثيره النفسي ما لديه من أحاسيس بائسة.. وصادمة.. يقذفها في وجهه.. دون أن يسعى إلى تحرير المفردات من مراراتها.. أو قسوتها.. أو أوجاعها... يبدو لمن يحدثه وكأن الهموم قد دكّت أراضيه اللحظة.. أو أنها تتعمد الوصول إليه دون غيره.. ولكن لو حاولت الدخول إليه.. أو معرفة ما يجري سوف تكتشف أن لا شيء قد عصف به.. أو فتح عليه النار.. أو استنزفه سوى أنه اعتاد على ذلك.. مجتمع فاسد.. بشر فاسد.. حياة غير آمنة.. أيام لا تمنح الاطمئنان.. مجتمع يعاني من الخلل.. لا صداقة حقيقية.. لا قيمة لمعرفة الأشخاص.. عليك أن تستعد للاصطدام بالعوائق قبل أن تسلك الطريق المفترض أن تجني معه ما تريد.. عليك أن تستعد لاندلاع كارثة رغم أن اللحظة لا تشير إلى ذلك.. وأنت تستمع إليه تجزم بأن الظلام قد حل.. وأن الحقائق المرّة هي ما ينبغي أن تتعامل معه مستقبلاً.. خاصة وأن المستقبل بالنسبة لهذا الشخص لا يتجاوز أن يكون ماضياً غابت ملامحه.. حاولتَ ذات مرة أن تسأله.. ماذا قدمت للآخرين لتطالبهم بكل شيء؟ راكمت الأسئلة وأتبعتها ببعضها.. ماذا قدمت للحاضر حتى تغيّب المستقبل وتقاطعه؟ ما هي الهدايا التي منحتها للآخرين لتطالبهم بهدايا مسبقة؟ ما الأمان الذي قدمته للآخرين لتطالبهم بمثله، ولماذا تصر على بث نشرات الخوف وأنت آمن في أماكنك..؟ لم تشاهَد يوماً تسارع إلى تعبيد ورصف طريق، بل على العكس انشغلت بهدم الطرقات المعبّدة.. وانصرفت إلى فتح كل نفق مغلق لتدفع إليه الآمنين والمنطلقين.. لم تنتظر إجابته أو إجاباته بالأحرى.. ولم يسعك أن تتحمل طلقات السلبية التي ستهدم كل لحظة نقية حولك.. هربت واخترت تغيير خط سيرك كاملاً، فالخطوط كثيرة وعليك الاختيار الذي هو حق مشروع..