في سياق التحوّلات الكونية والتغييرات العربية، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود قادة العالم الإسلامي إلى عقد مؤتمر القمة الإسلامي الاستثنائي بمكّة المكرّمة بين 14 و15 آب سنة 2012, صدر عن المؤتمر "ميثاق مكّة المكرمة لتعزيز التضامن الإسلامي"، وهو عهد جديد للمسلمين في علاقاتهم مع بعضهم ومع الآخرين. هذا الميثاق هو من أهمّ الدعوات إلى النهوض العربي والإسلامي على قواعد إنسانية وثقافية ودينية وحضارية وعلمية وسياسية واقتصادية واجتماعية بعيداً من الاستبداد والظلم والفساد والعنف والتطرف والفتنة والانقسام، وذلك من أجل التفاعل مع حضارة الحرية والعدالة والسلام والمحبة في عالمنا المعاصر. نحن نعيش نهضة عربية جديدة تهدف للعودة إلى القيم الإنسانية وإلى روح العروبة والإسلام والمسيحية المشرقية. إنها دعوة ملحّة للالتزام بقيم العصر الحقيقية وبالعولمة الإيجابية والمشاركة في حركة النهوض والإبداع. لقد عالج ميثاق مكّة المكرمة أموراً عدّة في 38 بنداً. سأتوقف عند مواضيع خمسة تشكل جوهر ثقافة الحوار ودور المسلمين الإيجابي في الأزمنة الجديدة من خلال فقه اللحظة الذي يدعو إلى احترام مبادئ الحرية وكرامة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والديمقراطية والتعددية والمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، والاعتدال والتسامح والتضامن والتحديث وحلّ المشاكل بالحوار، والتنمية الانسانية الشاملة والمستدامة. 1- نداء خادم الحرمين الشريفين: لقد افتتح المؤتمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بخطاب عميق وصادق دعا فيه إلى فهم قضايا الأمّة الإسلامية وأسباب ما حصل لها من ضعف وتفرّق، الأمر الذي انعكس على تماسكها ووحدتها، معتبراً أنّ الحل الأمثل لا يكون إلاّ بالتضامن والتسامح والاعتدال والوقوف صفاً واحداً أمام كل من يحاول المساس بديننا ووحدتنا من أجل وحدة الأمّة وتاريخها وكرامتها وعزّتها، في زمن لا يعترف إلاّ بالأقوياء. وتابع خادم الحرمين الشريفين قائلاً: إن أقمنا العدل هزمنا الظلم، وإن انتصرنا للوسطية قهرنا الغلو، وإن نبذنا التفرق حفظنا وحدتنا وقوّتنا وعزمنا. ودعا إلى تحمل المسؤولية بجدارة والى أن ننصر الحق: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم"، لكي يثبّت الله المسلمين على دينهم، وأن يحفظ لهذه الأمّة وحدتها ومجدها، اقترح تأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية للوصول إلى كلمة سواء، يكون مقره مدينة الرياض، ويعيّن أعضاؤه من مؤتمر القمة الإسلامي، وباقتراح من الأمانة العامة والمجلس الوزاري. 2- تعزيز التضامن الإسلامي: إنّ العالم الإسلامي يمرّ بظروف صعبة واستثنائية لا بدّ من معالجتها بحكمة ورويّة وتقديم الحلول العلمية لها من أجل تفعيل التعاون والتضامن. يقول البيان: إنّ اجتماع الأمّة الإسلامية ووحدة كلمتها هو سرّ قوّتها مصداقاً لقوله تعالى: "إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون" وقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، ما يستوجب على الأمّة الإسلامية الأخذ بكل أسباب الوحدة والتضامن والتعاضد بين أبنائها، والعمل على تذليل كل ما يعترض تحقيق هذه الأهداف، وبناء قدراتها من خلال برامج عملية في المجالات السياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية حتى يستطيع أبناء الأمّة الإسلامية الترابط بعضهم ببعض عقائدياً ووجدانياً ومصيرياً في الحاضر والمستقبل، ونبذ كل أسباب الفرقة والشقاق السياسي والفتنة الطائفية والتشرذم بين ابناء الأمّة الواحدة والالتزام بالمصداقية في العمل الإسلامي المشترك. كما يؤكد المؤتمر أنّ الإعلام يتحمل عبئاً كبيراً في تحقيق غايات التضامن الإسلامي ويشدّد على تعزيز الأسس والمبادئ المسؤولة. 3- قضايا الإصلاح: وبحث المؤتمر في قضايا الإصلاح وشدّد على أهمية الموضوع في الزمن الحاضر، زمن النهضة العربية الجديدة بحيث ورد في الميثاق ما يلي: إنّ الإصلاح والتطوير أمر متجدد ومستمر ويقع على عاتق أبناء الأمّة دون غيرهم ووضع الخطط والبرامج العلمية والعملية التي من شأنها تحقيق نهضتها ورفعة شأنها مسترشدين في ذلك بهدي كتاب الله وسنة نبيّه. فالإصلاح والتطوير المنشودان نابعان من الاحتياجات الحقيقية للأمّة الإسلامية وبما يكفل وحدة نسيج مجتمعاتها وترابطها، وبما يواكب تغييرات العصر الذي نعيش فيه ويحقق مقاصد الحكم الصالح القائم على العدل والمساواة بين أبناء الأمّة الإسلامية واحترام الأنظمة والقوانين والوقوف في وجه أي من أوجه التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية. هذا والدول الأعضاء مدعوّة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنب إذكاء الفتن والنعرات بين الطوائف الإسلامية، وللسعي في هذا الإطار إلى أن يكون دورها إصلاح ذات البين وتكريس وحدة الشعوب والوحدة الوطنية والمساواة بين أبناء الأمّة الواحدة بدلاً من أن يكون مدعاة للفرقة والتناحر، ومكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان القائمة على مبادئ العدل والكرامة، ومشاركة المواطنين في إدارة شؤونها، وتهيئة المناخ لقيام مؤسسات المجتمع المدني التي تعيّن الحاكم على الوصول إلى هدف إصلاح وتطوير المجتمع الإسلامي. 4- التصدي للغلو والتطرّف: إن موضوع الغلو والتطرّف والإرهاب يشغل بال العالم كله، كما يشغل بال المسلمين والعرب. وقد تم بحث هذا الموضوع في المؤتمر الذي أكّد ما يلي: 1. ان الإسلام هو دين الوسطية والانفتاح، وهو يرفض أشكال الغلو والتطرف والانغلاق كافة ، ويؤكّد تاليا" أهمية التصدي لكل ما يبث ويروّج للفكر المنحرف بكلّ الوسائل المتاحة، ويدعو إلى تطوير المناهج الدراسية بما يرسخ القيم الإسلامية الأصيلة في مجالات التفاهم والتسامح والحوار والتعددية، ومد جسور التواصل بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة بما يعزز وحدتها وتضامنها من خلال عقد الندوات والمؤتمرات التي من شأنها أن توضح هذه القيم. كما يدعو للتصدي للتطرف المتستر بالدين والمذهب، وعدم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية، وتعميق الحوار بينها وتعزيز الاعتدال والوسطية والتسامح. 2. انّ المؤتمر يشدّد على إدانة الإرهاب بجميع أشكاله وصوره، ويرفض أي مبرر أو مسوغ له، كما يعيد تجديد تضامنه مع الدول الأعضاء في المنظمة التي تعرضت وتتعرض إلى العمليات الإرهابية ويشدد على ضرورة محاربة الممارسات الإرهابية كافة وجميع أشكال دعمها وتمويلها والتحريض عليها، معتبراً الإرهاب ظاهرة عالمية لا ترتبط بأي دين أو جنس أو لون أو بلد. كما يؤكد المؤتمر أهمية تضافر الجهود الدولية لمكافحة هذه الظاهرة، منوّهاً بالجهود الكبيرة التي بذلتها حكومة المملكة العربية السعودية في إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأممالمتحدة تنفيذاً للتوصيات الصادرة عن المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي عقد في الرياض عام 2005، ويؤكد على ضرورة التمييز بين الإرهاب وبين مشروعية مقاومة الإحتلال الأجنبي التي لا تستبيح دماء المدنيين الأبرياء. 3. انّ المؤتمر يعبّر عن عميق قلقه أمام تصاعد ظاهرة الربط بين الإسلام والإرهاب والتي تستغلها بعض التيارات والأحزاب المتطرفة في الغرب للإساءة إلى الإسلام والمسلمين. ويؤكد ضرورة العمل الجماعي لإبراز صورة الإسلام الحقيقية وقيمه السامية، والتصدي لظاهرة كراهية الإسلام، وتشويه صورته وقيمه ورموزه، وتدنيس الأماكن الإسلامية، والعمل الفعال مع الدول والمؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية وحثها على محاربة هذه الظاهرة وعدم جواز استغلال حرية التعبير ذريعة للإساءة إلى الأديان. كما يؤكد الاجتماع على ضرورة احترام التنوع الثقافي والديني والتعايش السلمي وأهمية مواصلة التعاون على المستوى الدولي ضد التحريض على الكراهية والتعصب، ويرحب في هذا الصدد باعتماد مجلس حقوق الإنسان للتوافق لقرار رقم 18/16 بشأن مكافحة التعصب والتحريض على العنف أو الكراهية والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد باعتبار هذا القرار خطوة متقدمة لاحترام التعددية الثقافية. 5- الحوار بين اتباع الأديان والثقافات والحضارات: إن ثقافة الحوار هي أولوية في عالم اليوم. وان حوار الحضارات هو السبيل الأمثل لتجسيد قيم الاحترام والفهم المتبادلين والمساواة بين الشعوب لبناء عالم يسوده التسامح والتعاون والسلام والثقة بين الأمم ويدعو الأعضاء إلى المشاركة في برامج مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود الدولي للحوار بين أتباع الديانات والثقافات الذي أنشأته حكومة المملكة العربية السعودية في فيينا بالتعاون مع جمهورية النمسا ومملكة اسبانيا لتعزيز الحوار بين اتباع الديانات والثقافات، وكذلك المشاركة في تحالف الأممالمتحدة للحضارات الذي ترأسه بصورة مشتركة تركيا واسبانيا. كما بحث المؤتمر في الأمور السياسية كالقضية الفلسطينية والوضع في سوريا، ووضع مالي، ومنطقة الساحل، وجماعة الروحنجيا المسلمة في ميانمار، والتضامن مع الدول الأعضاء الأخرى التي تعاني من مشاكل وصعوبات وتحديات. أما في المجال الاقتصادي والاجتماعي والتنموي فقد تمّ بحث الموضوع بعمق وخصصت له سبعة بنود من أجل تقديم مشروع جديد يتناسب مع روحية المؤتمر. مؤتمر مكة للتضامن الإسلامي هو مؤتمر للتضامن العالمي والتنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة. ولتعزيز ثقافة حوار الحضارات والثقافات والأديان، والحوار بين المذاهب الإسلامية. وهو من أجل التسامح والمصالحة والعدالة والسلام والمحبة على قاعدة الاعتدال والوسطية. * أمين عام اللجنة الأسقفية للحوار المسيحي