في الذكرى الرابعة عشرة لثورة 23 يوليو كتب صلاح عيسى دراسة عام 1966م في مجلة الحرية البيروتية بعنوان “الثورة بين المسير والمصير” عندما كان يعمل مراسلاً سياسياً لها بالقاهرة، وقد أثار نشرها غضب كثيرين في دوائر الحكم المصري، قيل له فيما بعد إن الرئيس “جمال عبدالناصر” كان على رأسهم، وانتهى هذا الغضب بأن كتب “علي صبري” الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي مذكرة للرئيس عبدالناصر لخّص فيها المقالات، وأشّر الرئيس في ذيلها: يُعتقل ويُفصل! افتتحت ثورة 23 يوليو 1952م عصر التحولات في العالم العربي، بكل كوارثها ومنجزاتها ومحاولاتها التنموية، وطرحت منذ عقود ومازالت كثيراً من القراءات النقدية، والمذكرات، والبرامج والأفلام والشهادات المتناقضة والرؤى المختلفة، حيث يتميز الفضاء الثقافي المصري بقدرته على استيعاب مختلف الرؤى والتصورات المتنوعة للتاريخ والتعايش معها. بعد ستة عقود جاءت ثورة 25 يناير لتصنع تاريخاً جديداً للمجتمع المصري، فجعلت ثورة يوليو أمام لحظة شبه قطيعة.. لتواجه أسئلة حقيقية من نوع مختلف. بدأ السجال هذا العام حولها مختلفاً عن العام الماضي 2011م حيث مرت الذكرى دون جدل يُذكر بين مختلف الاتجاهات والقوى الثورية المصرية، لأسباب واقعية، ولضخامة وسرعة المتغيرات التي حدثت في الساحة المصرية، لكن الكاتب المصري أسامة غريب له رأي آخر في تفسير أسباب زيادة الجدل هذا العام، بأنه نكاية بالإخوان فيقول “ثورة يوليو مرت العام الماضي دون أن يحفل بها أحد.. هل معقول كل هذا الكيد للإخوان المسلمين بادعاء حب يوليو من جانب عشاق إسرائيل؟”. جاءت الذكرى الستين في أجواء متناقضة. ففي حين وجه الرئيس المصري انتقاداً لثورة يوليو، وتعثرها في الديمقراطية والحريات مع اعترافه بنجاحها في بعض الأهداف، فقد خاطب البيان العسكري الرافضين للاحتفال بثورة يوليو ورأى أن محاولات الهجوم على الثورة والتشويه المتعمد هو ضلال “فلا مستقبل لأمة تمحو تاريخها”. الاتجاه الناصري حاول الربط بين 25 يناير و23 يوليو ليجعلها امتداداً ومكملة لها. موقف الإخوان هو الأكثر وضوحاً منذ عقود خاصة في موقفها من التجربة الناصرية، ولهذا رأى كثير منهم أن 25 يناير فرصة للقطيعة مع يوليو. ثارت ضجة.. عندما عبّر أحد شباب الثورة ومنسق حركة 6 إبريل عن رفضهم لإحياء ذكرى يوليو. كثير من الآراء الأخرى في الساحة المصرية تحاول أن تتوسط في رأيها.. فتشير إلى بعض نجاحاتها وإلى عيوبها، حيث تعترف بمنجزها في العدالة الاجتماعية مقابل إخفاقها الديمقراطي. وبالرغم من سوء الأوضاع التي أدت إلى اشتعال ثورة يناير فالواقع أن الحالة المصرية أفضل منها في العراق وسوريا وليبيا التي ابتُليت بأنظمة بشعة أوقفتها عند مرحلة الستينيات. لا أرتاح كثيراً للتطرف النقدي في التعامل مع أي تاريخ، خاصة عندما تكون من أبناء جيل ومجتمع تشبع بهجاء القومية والعروبة والناصرية، وتشكل وعيه في لحظة استقبال العائدين من بريق عصر الثورية العربية وتحليل النكسة أمام المشروع الصهيوني، فقد أصبح هذا الخطاب يكرر نفسه في مناسبات عدة منذ عقود ويتاجر بهذا الطرح، وهو لا يقل سوءاً عن ذلك الخطاب العروبي المتطرف، لأنه ليس مهموماً إلا بمصالح زمنية ضيقة. في نظري يمكن اعتبار التجربة الناصرية وما صنعته من تحديات كبيرة.. أهم منبه لدول عربية أخرى كانت في نظر الخطاب التقدمي رجعية، فشعرت هذه الدول وخاصة الخليجية بأهمية الانخراط في مشروعات تنموية طويلة لتجنب موجة الانقلابات التي عصفت بدول عربية عديدة. يتحدث كثير من نقاد هذه التجربة عن العنتريات والحروب والمغامرات. واقعياً أخذ خطاب السلام زمناً طويلاً.. بحجة الانشغال بالتنمية دون جدوى، فقد استمرت المشكلات وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً، ولهذا يبدو أن تحميل أخطاء الخمسينيات والستينيات كل شئ هو نوع من الماضوية والكسل الفكري في مواجهة الواقع. من أهم الأخطاء في التعامل مع يوليو هو خلط التجربة الناصرية التي لم تتجاوز العقدين بمرحلة السادات ومبارك التي أخذت أربعة عقود من التجربة. أخذت تلك التجربة من الاشتراكية الاسم والواجهة، وبدت كما يرى بعضهم أنها انتقال من الإقطاع عبر مرحلة شبه اشتراكية إلى الرأسمالية. مازالت بعض كاريزما عبدالناصر وحياته الشخصية فيما يتعلق بالجوانب المالية حاضرة عند أحفاد يوليو. صحيح أن التجربة الناصرية حققت إنجازات متعددة لكن.. ولكن هنا ليست شيئاً عادياً: لقد مأسست الاستبداد في عالمنا العربي وأوجدت جرثومة الديكتاتورية بصورتها العسكرية وانتقلت العدوى لأنظمة عربية أخرى بدأت تتساقط سريعاً بوقت متزامن مع ربيع بوعزيزي. عندما ندقق في بعض تفاصيل النجاحات التي تحققت كالإصلاح الزراعي أو تأميم قناة السويس أو ضرب مرتكزات السيطرة الإمبريالية في منطقتنا على رأي العروبيين، فستتغير رؤيتنا لها لأسباب عديدة ليس هنا مكان التفصيل لها. المشكلة ليست في الإنصاف الموضوعي للتجربة الناصرية نظرياً، أو مواجهة مبالغات هجاء القومية والعروبة عند من هجروها، وعدّوها مراهقة فكرية في حياتهم. المشلكة أن نهايات وامتدادات كل تجربة هي التي تحدد تصور الناس لها في العالم العربي . قبل أكثر من ربع قرن كان جمال حمدان بعبقريته النقدية وكتابه الضخم “شخصية مصر” يقول: “فبغض النظر عن الرأي الذي يصمه بأنه محض انقلاب عسكري بداية ونهاية، أو أنه مزيج من (ووسط بين) الانقلاب والثورة، أو أنه انقلاب ناجح وثورة فاشلة… إلخ، فإنه في رأي كثيرين والواقع العملي قد فشل في النهاية..”. وإذا كانت ثورة يوليو أوجدت بيئة مناسبة لمأسسة الاستبداد عربياً، ونمو جرثومة ديكتاتورية العسكر، فقد جاء الربيع العربي للقضاء على هذه الجرثومة، وقد كان جمال حمدان برؤيته العميقة يصف الدواء منذ زمن بعيد “الانقلاب العسكري مرض، مصله المضاد هو الثورة الشعبية. ولقد ولى زمان الحاكم الهاوي المغتصب”، وهو ما حدث بعد ربع قرن!