شراء الخرائط السياحية المناسبة من الاستعدادات المهمة قبل أي رحلة للخارج.. وأكبر مجموعة حملتها معي كانت عام 2001 حين أخذت أكثر من عشرين خريطة لمدن أوروبا المهمة في رحلة استغرقت شهرين.. ولأنها مدن عريقة وقديمة - وتتمتع بطرق ضيقة ومتشابكة - أصبح من المرهق والموتر للأعصاب النظر للخريطة كل حين لمعرفة موقعي الجديد. وحين وصلت الى فينيس (أو البندقية كما يدعوها العرب) كنت ما أزال حريصا على النظر للخريطة - كل دقيقة أو دقيقتين - الأمر الذي استقطع جزءا كبيرا من متعة الاستكشاف ورؤية المدينة ذاتها.. حينها فقط قلت لنفسي مماذا تخاف؟.. من الضياع!؟.. ولَم لا تضيع، فأنت في النهاية تسير فوق جزيرة صغيرة.. وهكذا طمأنت نفسي فطويت الخريطة وقررت الضياع عمدا في شوارع فينيس. ومن يومها اكتشفت متعة الضياع في مدن جميلة كبراج وفلونس وبيرن وروما وكافة المدن القديمة.. فالضياع في مدن كهذه - سبقت عصر السيارات - يذكرنا بمتعة المشي التي نسيناها في مدن الاسمنت والطرق السريعة.. فهي ببساطة مدن صديقة للانسان صممت أصلا للمشاة - ولا تسمح اليوم للسيارات بدخول أحيائها العريقة أو تشويه طرقاتها القديمة. وفي المقابل هناك مدن حديثة وعملاقة يصعب المشي فيها أما بسبب تمددها الطولي ك(دبي) أو طرقاتها السريعة ك(لوس انجلوس) أو فراغاتها الشاسعة ك(الرياض) أو افتقادها لمركز حضاري واضح ك(جاكرتا).. أو لكل هذه المساوئ معا...!! وحسب خبرتي تضم أوروبا أكبر نسبة من المدن الصديقة للانسان لأسباب كثيرة أهمها اعتدال الجو، وجمال الطرقات، وتصميمها الذي يعود للعصور الوسطى.. وهي في الغالب مدن قديمة وصغيرة تتمتع بكثافة الحجم ووفرة الظل وتلاصق المباني وكثرة المشاة بحيث يحلو الضياع فيها دون الابتعاد عن أي مكان!! ورغم أنني مازلت أحمل الخرائط في رحلاتي للخارج، إلا أنني لم أعد استعملها إلا في الحالات الطارئة أو لأخذ فكرة عامة عن المدينة (خصوصا في ظل توفر الخرائط الإلكترونية على الجوال).. وفي المقابل قللت من استعمال الخرائط الورقية، وابتكرت مبدأً بسيطاً مفاده: "اتبع الازدحام في النهار، وأضواء النيون في الليل"!! فحين أسير في النهار (في شارع رئيسي مثلا) أدخل في الشوارع الفرعية التي تتضمن أكبر قدر من الناس.. وبهذا الطريقة اكتشفت في مناسبات كثيرة أسواقا شعبية، ومهرجانات محلية، واحتفالات اسبوعية، ومجموعات بشرية تتجمع حول شيء ما. وهذا المبدأ (الذي أدعوه: قانون الإدهار) خدمني على وجه الخصوص في الصين حيث جهلنا باللغة الصينية يحول دون فهمنا لأي خريطة.. ففي بكين مثلا ذهبت الى شارع تسوق (حديث ونظيف وعريض) يدعى وانغفوجينغ.. وأثناء سيري فيه كنت ألاحظ الشوارع الفرعية (الأقل عرضا ونظافة) فاخترت في النهاية أكثرها ازدحاما فدخلت فيه.. ومن هناك اكتشفت أسواقا أكثر شعبية، ومواطنين أكثر بساطة، وحياة أقل هوسا بالمنتجات الحديثة.. ومن شارع لشارع وصلت في النهاية الى (حواري) ضيقة وأحياء متواضعة لا أعتقد أن سائحا قبلي دخلها.. ولا أنسى تلك العجوز التي حاولت إدخالي لبيتها وهي تكرر كلمتي آيفون آيفون، آيباد آيباد..!! أما الجزء الثاني من المبدأ (اتبع أضواء النيون) فنفذته ليلا حين انتهيت من رحلة في نهر هوانغبو في شنغاهاي.. فبعد ساعتين من الجلوس في القارب حل الظلام وشعرت برغبة في المشي بلا هدى.. وهكذا سرت بمحاذاة النهر باحثا عن أضواء النيون حتى دخلت في حي زينتياندي الصاخب xintiandi (حيث المباني المضيئة والشوارع العريضة ولوحات النيون الضخمة).. ومن شارع لشارع وسوق لسوق وحي لحي شاهدت وجها مختلفا ومغايرا للمدينة.. وبعد ست ساعات من المشي المتواصل أطفأت المدينة أخيرا أنوارها فأوقفت أنا أقرب تاكسي وطلبت منه - بكل بساطة - إعادتي للفندق!!