في تحقيق للزميل هشام الكثيري عن العلاقة بين الجيران وانقطاع التواصل تذكرتُ تلك الحكاية لسيدة تسكن مع عائلتها في إحدى العمارات في حي متوسط وشارع رئيسي عندما طُرق بابها في إحدى الليالي حوالي الساعة السابعة مساء وعندما ردت تسأل من الطارق: قالت المرأة أنا أم فلان؟ سألتها مين أم فلان؟ قالت جارتكم، قالت لها أنا لا أعرف جارة بهذا الاسم، ولا نتواصل مع جيراننا من خارج العمارة، قالت أنا سكنت منذ حوالي شهر في العمارة المقابلة لكم، وأحببت ان أتعرف على جيراني، وسألت عنكم لتتعرف بناتي على بناتكم، ونتقارب .. حاولت السيدة ان تختصر الأمر معها وخافت فقالت لها: ليس لديّ مفتاح لأفتح لك، عادت أم فلان بإلحاح تستأذن في الحضور متى سُمح لها، فأغلقت عليها السيدة الباب عندما قالت لها: نحن لا نستقبل من لا نعرفهم. انتهت الحكاية التي سمعتها من السيدة نفسها، والتي بررت ما قامت به بأنها تخاف ممن لا تعرفهم. وقد مرت بتجارب لنساء يُفتح الباب لهن ويتضح أنهن ممن يجمعن النقود من المنازل، أو لشخصيات لا تربطك بهن أي روابط، أو أي لغة تواصل. ونحن نتحدث اكتشفت ان أغلب من يسكنون في المدن الكبيرة ويتناثرون على الأحياء المتباعدة لا يرتبطون بجيرانهم إلاّ في تواصل الرجال في المسجد، والنساء في لمحات الدخول والخروج، حتى إنني منذ شهور ذهبت للتعزية في زوج إحدى المعارف بعد مرور حوالي شهر على الوفاة وقد كتبتُ العنوان منها ولكن لم استدل على الشارع الداخلي وظللت لأكثر من ساعة حسب وصفها ألفّ بحثاً عن المنزل، فتلقفتْ من معي وقالت وهي تسأل: البيت اللي كان فيه عزاء منذ شهر توفى صاحب البيت، ولم يدلنا أحد لا مواطن ولا مقيم، وفي النهاية عندما ردت أرسلت لنا سيارة عند محطة بنزين وتبعناها واكتشفت ان من سألتهم عن المنزل يقطنون في نفس الشارع ولم يعرفوا ذلك. لا أعرف لماذا تذكرتُ تلك الليلة طفولتي في جازان وتلك المنازل المتراصة والمتقاربة، والملتصقة أسوارها ببعضها، في تقارب بنيوي، وتقارب إنساني جميل واحاسيس مشتركة ومشاكل يومية وتداخلات لا تخلو من طرافة وحب والتئام. كانوا يقولون (الجار ولو جار) يشتركون معاً في تربية طفل الحارة وليس هناك مشكلة إن ضرب الجار ابن جاره، أو ابنتهم إذا وجدها تخطئ، أو ترتكب الخطأ، وأعادها إلى المنزل، وتلقيى الشكر على ما قام به. يقف الجار مع جاره في أزماته ومشاكله يستشعرها ويحس بها ويعرف عنه كل التفاصيل، حتى وإن كان منزله مغلقاً عليه. بساطة الحياة عززت قيمة الجار، وجعلت منه الأخ الأقرب والصديق ولذلك تظل تلك العلاقات قائمة وغير متغيبة، بالنسبة لي كلما ذهبت إلى جازان حاصرني الحنين للذهاب إلى جيراني وجيران أهلي وبالذات سنوات الطفولة، أشعر أنني أتلمسها أقترب منها رغم تباعد المسافات واختلاف البيوت وضياع آثار الحارة القديمة لكن ظل البشر، رغم غياب بعضهم، كما هم نفس الأحاسيس، والحب وتذكر الأيام الصافية والبسيطة، والخالية من توازنات الحياة. الغرب وعلى الرغم من نمط الحياة المختلف لديهم عن العرب إلاّ أنهم تنبهوا إلى أهمية وقيمة الجار من خلال اكتشاف ان الثقة بالجيران هي الطريقة الوحيدة لتحسين الصحة. وقد اكتشفوا بأن الأشخاص الذين اعتبروا جيرانهم جديرين بالثقة كانت صحتهم أفضل، فيما تبين ان أصحاب الدخل المرتفع كانوا أقل ثقة بجيرانهم. وأشارت إحدى الدراسات إلى أن الأماكن العامة المشتركة مثل الحدائق والأرصفة المخصصة للمشي يمكن ان تفرز التواصل بين الجيران وتساعد على اغلاق الهوة الموجودة بالنسبة للثقة بينهم ما يساعدهم على تحسين الصحة والرفاة. في فرنسا يتم الاحتفال بعيد الجيران سنوياً ومنذ فترة احتُفل بالعيد العاشر حيث يجتمع سكان حي أو عمارة أو شارع معاً من أجل تناول الطعام، وتعزيز العلاقات البشرية التي هي في الأساس عاملا أساسيا من العوامل التي تسمح بتجنب التوتر والتشنج. تجدر الملاحظة أن مُطلق عيد الجيران في فرنسا فعل ذلك عندما علم أن جارته العجوز قد توفيت في شقتها، ولم يهتم أحد لذلك طوال أيام عديدة.