تصاعد الانتقاد في الصحافة الغربية لمشاهد السيارات الفخمة للخليجيين في العواصم الأوروبية. تقول التقارير إن هذه السيارات لا تلتزم بالقواعد المرورية وتتعمد أحيانا أن تأخذ المخالفات التي يبدو أن أصحابها لا يهتمون بقيمتها البسيطة. أحد التقارير الاخبارية أوضح أن المخالفات وصلت لأرقام خيالية (6 ملايين جنية استرليني!!) . هذه الصورة من البذخ المفرط الملفتة في السنوات الأخيرة أصبحت مخجلة لصورتنا العامة. أحيانا تصل المسألة لدرجة استفزازية يعبر عنها الخبر الذي يقول إن أحد هؤلاء قام بشراء سيارة مصنوعة من الفخار بالكامل وكلفته مايقارن مليوني يورو. وبالرغم من هذا المبلغ الضخم فإن السيارة قابلة للتحطم مع أبسط خدش . من السهولة إلقاء المواعظ والادعاء بالزهد والهجوم على هذه المظاهر غير الجيدة. أسهل شيء أن ترجم الآخرين وتصفهم بالشياطين. لكن مثل هذا الهجوم لن يقوم بأي شيء إلا أنه يجمل من صورة قائله الذي - كما أظن- سيقوم بذات الشيء أو ربما أكثر منه لو كان يملك الثروة التي يحلم بها كل لحظة . وفي نهاية المطاف لن يتغير أي شيء. سنشاهد عددا أكبر من الشابات والشباب المتفاخرين بسياراتهم وأزيائهم وساعاتهم والمطاعم الغالية التي يرتادونها. في الحقيقة ان مثل هذه الظاهرة بدت أكثر وضوحاً بسبب الصحافة الغربية،ولكن في الحقيقة جذورها موجودة لدينا. بمعنى أن هذه السيارات لم تنبت فجأة من الأرض وفي الصيف تحديدا ثم تختفي. هي في الحقيقة امتداد لما يحدث في ثقافتنا الاجتماعية . السؤال الآن لماذا حدثت ؟ أكثر إجابة قريبة من ذهني هي أن ذلك يحدث باستمرار بسبب فكرة عميقة داخل كل إنسان وهي الرغبة أن يرى نفسه أقوى وأفضل من الآخرين، ولا شيء أسهل في هذه الحالة من استخدام الفلل أو السيارات والمجوهرات كي تعكس مثل هذا التفوق. لذا فإن الشاب الذي يستعرض بمثل هذا السيارات لدينا أو في الخارج هو بمعنى ما يحاول أن يرى نفسه ويجعل الآخرين يرونه بصورة الرجل الثري والتي تعني الرجل القوي والمقتدر وصاحب النفوذ. وفي الواقع مثل هذا السلوك لا يختلف عن الكثير من التصرفات التي نرى في حياتنا اليومية. هناك دائما شيء نحاول أن نستعرض فيه . إذا لم يكن لديك المال الذي تستعرض فيه حجم بيتك، تقوم عوضاً عن ذلك بالاستعراض بكرم ونبالة أصلك أو عراقة منطقتك، اذا كنت تعتقد أنك لا تملك لا هذه ولا تلك، فستقوم باستعراض علاقاتك وصداقاتك التي يمكن أن توصلك لكل شيء. المرأة الموظفة تستعرض على الأخريات بأهمية منصبها أمام العاطلات، أما العاطلات فيسعترضن وظائف أزواجهن ونجاحات أبنائهن، أما الأبناء فسيستعرضون بما تملك العائلة من شركات واستثمارات ( في الغالب غير صحيحة أو مبالغ فيها). الفكرة هي هناك شيء دائماً نريد الاستعراض فيه. هذه السيارات الفخمة ربما هي الصورة الأكثر فجاجة لمثل هذا الاستعراض . من المنطقي جداً السؤال الآن: ألا يبدو هذا أمراً طبيعياً؟ ألا ينزع كل واحد منا دائما لشراء الجديد و الافتخار بما يملك أو حتى الاستعراض فيه ؟ صحيح ان الإنسان يحتاج أن يشعر بالرضا عن نفسه ، ولكن الخطأ الذي ارتكبناه فعلا أننا ركزنا على الأشياء المادية والخارجية البحتة ونسينا الأشياء الأعمق الداخلية التي ستجعل منا فخورين بأنفسنا،ولكن ليس مبذرين أو ساذجين أو متعالين وفارغين ندعي أننا أفضل من الآخرين. بمعنى أن الشاب فهم أن التفاخر والنجاح يقتضي فقط التركيز على الأشياء الخارجية البحتة فأصابه الجنون لمراكمته حوله وفوق جسده. الساعة ماركة واللبس ماركة والنظارات ماركة والسيارة التي يركبها من أغلى مايكون. وهذا ما يعكس في الفترة الأخيرة انتشار سيارة جيب مكلفة جدا بالرغم من عدم جاذبيتها. واضح أن من يشتري هذه السيارة يشتري في الحقيقة السمعة التي ستجلبها له (خصوصا أن الكثيرين غير قادرين على ثمنها). ولكن من المؤكد لو فكر هذا الشاب مثلا بالأشياء الداخلية التي تجلب له الاحترام والفخر مثل أن ينجز عملاً معيناً أو يطور مهارة أو هواية ما فإن اهتمامه بمثل هذه الأشياء سيقل تدريجياً ولن أقول سيختفي تماماً وليس المطلوب أن يحدث ذلك . لا أعتقد أن الناس في كل مكان ستتوقف عن شراء الجديد ( لأن الجديد له فعلاً لذة جميلة وينعش الحياة على مستوى ما) ولكن لو كان لديهم شيء داخلي قوي يعتمدون عليه سيقلل إلى حد كبير من اهتمامهم بالموضات والصرعات وأحدث السيارات وسيصبح الأمر طبيعيا جدا. مثلا ستشتري سيارة جميلة بثمن معقول لوقت طويل،ولكن لماذا تشتري كل وقت سيارة جديدة وتذهب بها إلى العواصم الأوروبية التي لا تحتاج فعلاً إلى سيارة هناك. من الطبيعي أن يكون لديك بيت جميل ولا تصاب بهوس الآحجام الكبيرة فقط لتحس بالرضا عن نفسك. هناك ماهو بداخلك، ماهو أهم من كل ذلك . السؤال الآن: كيف يمكن أن نعمق من هذا الشعور الداخلي؟ في الحقيقة ان هذا يعود في تقديري لرؤية الشخص لداخله الإنساني الذي يفضل الأشياء الخالدة ذات القيمة أكثر من الأشياء الوقتية زائلة القيمة. لنقل ان هناك شابة تعمل كمرشدة طلابية في مدرسة ما، هذه المرشدة فعلاً تهتم بعملها الذي يمسها إنسانياً لأنها تقوم بخدمة الطالبات المحتاجات للعون الإنساني للمضي في حياتهن ودراستهن . مثل هذا الشعور العميق سيكون سنداً نفسياً عميقاً ومصدراً قويًا للسعادة والرضا عن النفس لها لن تجده في كل الفساتين أو السيارات التي يمكنها أن تشتري. لذا فإن تعلقها بهذه الأشياء سيقل كثيرا ولن ينتهي لأنها مثلنا تحب أن تشتري الأشياء الجديدة بين فترة وأخرى. لنقل أيضا إن شاباً يعمل كمترجم وسيكون لديه في الصيف مهمة ترجمة كتاب. من المؤكد أن الشعور العميق بالإنجاز والسعادة الداخلية التي سيكسبها من هذا العمل ستضعف لديه الهوس بشراء الجديد الذي لن يمنحه ذات الشعور الجميل. ميزة هذا الشعور الداخلي العميق أنه يسهم في تطور الشخص ويساعد في نضج شخصيته التي تركز على الجوهر أكثر. هذا ينطبق على أشياء كثيرة تدعم الداخل الروحي ، وتقلل ولا تلغي من الاهتمام الشكلي للأشياء . ولكن لنكن أيضا حذرين، فأحيانا حتى الأشياء التي تبدو تدعم الداخل نحولها لأشياء خارجية للتفاخر. مثلا القراءة والاطلاع هي من أهم مصادر التطور الداخلي لكننا نحولها إلى وسيلة للتفاخر والاستعراض لذا تفقد قيمتها ولا تفيدنا بأي شيء. تصبح مثل الأحذية الجميلة تستخدم للاستهلاك فقط. التعليم مثلاً يسهم في التطوير الداخلي العقلي والنفسي ،ولكنه قد يتحول إلى مجرد شهادة للاستعراض وأداة للتلاعب والاحتيال. نفس الشيء ينطبق على الدين الذي يساعد على تهذيب أخلاق الإنسان وترقيق سلوكه وتنمية عقله وروحه ولكن الكثيرين - للأسف- احتكروه وحولوه إلى وسيلة لقمع وإسكات الآخرين ،وآخرون أيضا حولوه إلى سلعة تباع على الفضائيات . هذا ينطبق على أشياء كثيرة ممكن أن نحرفها ونعبث بهدفها الحقيقي. ليس هؤلاء الشباب وحدهم هم المشكلة بل هي مشكلتنا جميعا. من السهل إلقاء اللوم والادعاء بالفضيلة والزهد، ولكن هذا لن يغير أي شيء في الواقع. فقط لو استطعنا أن نتعلم ونعلم الصغار كيف يقدرون الأشياء التي ستساهم بنضجهم الإنساني الداخلي .. فمن المرجح أننا لن نراهم في الخارج ويرتدون الملابس المكلفة جدا ويقودون السيارات المبالغ في فخامتها ويتصرفون بعنجهية، كما أن المظاهر التي نراها في حياتنا كلنا ونمارسها ستخف تدريجيا. لا يعني هذا أبدا أن لا نشتري الجديد ونفرح به،ولكن ستكون حياتنا الداخلية ثرية وعميقة لدرجة لا نبحث عن العزاء في السيارات والفساتين باهظة الثمن.