الحنين إلى الماضي.. شعور لا يقاومه كثيرون، إلاّ باستعادة شيء من الذكريات إما ذهنياً، أو من خلال زيارة مواقع لها وقعها في أفئدتهم، يسترجعون عبرها أياما مضت لم تغير السنين من بريقها ووهجها سوى أن الناس تغيرت وانتقلت إلى مواقع أخرى.. ربما الحنين إلى الماضي شعور جميل لا يود البعض استعادته، ولكن في "جدة" بلغ الشوق بالبعض أقصى مدى نحو أماكن تاريخية وقديمة وشعبية؛ هرباً عن مدنية باعدت بين قلوب، واستعادة لأجواء كانت القلوب حينها صافية، والنوايا أنقى. ويستعيد الكثيرون ذكرياتهم مع أزمانهم الجميلة في عدة مواقع بجدة، لاسيما في أواخر "رمضان"، عندما تمتزج طقوس الشهر، بأجواء انتظار العيد، ويأتي أبرزها "باب مكة"، و"سوق الندى"، و"غليل"، و"الكندرة"، و"الصحيفة"، و"سوق اليمن"، وغيرها من أحياء وأسواق جدة القديمة، حيث عمدت "أمانة جدة" إلى الاهتمام بتلك الأسواق بالتنظيم والإشراف. بسطات شعبية ويعمد البائعون في تلك الأسواق الشعبية، إلى مواكبة تلك المشاعر وحنين المشتاقين من خلال بسطات متواضعة تفوح منها رائحة الأكلات الرمضانية التي لا تتواجد في بقية الأسواق الحديثة، مثل بعض الحلويات، و"سمبوسة زمان"، و"رؤوس المندي"، و"الكوارع"، و"اللحوح"، و"المقليات"، إلى جانب "الأسماك"، و"الخضروات"، و"الفواكة"، و"التمور"، فيما تزدان عروضهم بتعالي صيحات البائعين ونداءاتهم "فطورك يا صايم.. فطورك يا صايم" وسط أجواء تنافسية لاستقطاب الصائمين. وتمتاز تلك الأسواق الرمضانية التي تزداد كثافة الحركة فيها بعد صلاة العصر، وحتى آذان المغرب.. تمتاز بتجاور بسطاتها؛ لكي تسهّل على المتسوقين شراء حوائجهم من متطلبات الإفطار، إلى جانب احتوائها على محال لبيع مستلزمات أخرى مثل الملبوسات وغيرها، كما أن بعض المحال تغير معروضاتها بين نهار ومساء "رمضان"، فضلاً عن أنها تغير معروضاتها في فترات الشهر نفسه، حيث تختلف معظم البضاعة، مع اقتراب حلول عيد الفطر المبارك، ما يجعل منها معارض مفتوحة ومنوعة للسلع والأغذية. فترة العصر وأكد "عبدالله الأزهري" -مدير محل في سوق شعبي- على أن تلك المحال تبدأ نشاطها بعد صلاة الظهر، ولكنها تزدهر بالزبائن أثناء العصر، إلى الغروب، مبيناً أصحاب البسطات يحضرون بضاعاتهم أمام المحلات في المواسم، ولا تمثل إزعاجاً لهم، كونها تجلب زبائن للمحلات أيضاً. وأشار "عمر عبدالهادي" إلى أن الحصول على ترخيص البسطة يتم قبل "رمضان" بأشهر، ويمر بعدة تعقيدات، ولكن ذلك لا يهم مقابل العائد المالي الجيد من دخلها، مبيناً أن فروع "البلدية" تجري جولات تفتيشية على كافة البسطات. وقال "أبو عامر" -صاحب محل بيع رؤوس مندي وشوربة وكبدة- انه يعمل طوال العام، ولكن يشكل "رمضان" فترة ذهبية له، حيث يعادل الدخل مبيعات العام كاملاً، ويصل ما يبيعه يومياً حوالي (200) رأس مندي يومياً، إضافة إلى كميات كبيرة من "الشوربة". وذكر "عبدالرحمن هلال" -بائع سمبوسة ومقليات- أنه يعتمد على الزبائن العزاب، إلى جانب أسر تتذوق بعض المأكولات التي يصعب إعدادها منزلياً، مبيناً أن الزبائن لا يأتون من الحي نفسه فقط، بل هناك من يأتي من أحياء بعيدة للشراء والتسوق. واتفق معه "أحمد الزهراني" -بائع عصيرات- موضحاً أنه يعمل إلى جانب شريكين في "البسطة" يعملون على شراء المستلزمات وإعدادها وبيعها. وبينت "خديجة" -بائعة لحوح وحلبة وحمر- أنها تبيع في السوق منذ سبع سنوات، في موقع صغير لا يضم إلاّ كرسيها، وطاولة تستهدف الزبائن من مختلف الجنسيات، ذاكرة أنها تتواجد طوال السنة، ولكن يزداد الطلب في "رمضان" أكثر بخمسة أضعاف. وأوضح "عبده جيزاني" -بائع خضار- أنه يستهدف الزبائن من خلال عرض الخضار الطازجة بطريقة مغرية للشراء من قبل الصائمين، كون شهيتهم تكون مفتوحة قبل الغروب، ويشترون ما يفوق حاجتهم. وعن نظافة وجودة ما يتم إعداده وبيعه؟، شدد "عادل أيمن" و"علوي" على نظافة ما يعدانه من أطعمة وفق ضوابط البلدية، كونهم يحرصون على سمعة بسطتهما التي تعمل في ساعات قبل الإفطار ثم تغلق بعكس بسطات أخرى تستخدم مساء في نشاط مغاير عن الأطعمة، مثل بيع المستلزمات المنزلية والملبوسات، والهدايا والألعاب والكماليات وحلويات العيد. وتفاوتت أهداف المتسوقين في الأسواق الشعبية، ما بين أشخاص يفضلون أجواءها وبساطتها، وآخرون يأتون من أجل انخفاض أسعارها، إلى جانب متنزهين في تلك الأسواق يستمتعون باستعادة ذكرياتهم وشراء بضائع لا تتوفر في الأسواق الحديثة.