اليمن من بلدان الديمقراطيات الناشئة التي يتمتع مواطنوها بكامل الحقوق والحريات الديمقراطية المتعارف عليها، وفي الطليعة منها الحريات المدنية والسياسية والإعلامية التي ساعدت في تعزيزها وإشاعتها في المجتمع الثورة التقنية المعلوماتية والابتكارات المتطورة في تقنية الإعلام ووسائلها الحديثة بما وفرته من إمكانات غير مسبوقة لتقديم رسالة إعلامية متطورة، وقدرات غير محدودة للتواصل بين المرسل والمتلقي. في العقدين المنصرمين من عمر الديمقراطية الناشئة شهد الإعلام الوطني طفرات كمية ونوعية هائلة، اتسعت معها قاعدة التواصل الاجتماعي وقنواته المختلفة بين الشرائح الاجتماعية مع بعضها البعض، وبينها وبين إطارها الإقليمي والدولي، وتعززت بشكل غير مسبوق علاقة الفرد والمجتمع بهمومه وقضاياه الوطنية وبتاريخه وبحاضره ومستقبله، ونجح الإعلام الوطني إلى حد ما في تشكيل رأي عام شعبي رقابي ضاغط على أداء السلطة ومؤسساتها المختلفة، وموجه ومحدد لهويتها وسماتها في الوقت ذاته، وتعززت بشكل عام إسهامات المجتمع ونخبه المختلفة في الإدارة الذاتية ورسم السياسات الوطنية ضمن إطار من الأداء التكاملي العملي بين الإعلام وبقية المؤسسات والآليات الديمقراطية الشعبية والرسمية. في ظل الديمقراطية ظهر أيضاً جيش من الإعلاميين المؤهلين بدرجة عالية وفي مختلف التخصصات المهنية والفنية والفكرية والكثير من قنوات التواصل الإعلامي مع الجمهور اليمني من صحافة مقروءة أو إلكترونية أو قنوات تلفزيونية، وأضحى بإمكان كل حزب أو تيار سياسي أو فكري أو جماعات مهنية أو فرد أن يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة به إذا ما امتلك الإمكانات والموارد والمؤهلات اللازمة لذلك، وأخيراً صار بإمكان كل فرد في المجتمع أن يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة، أو ما يسمى بالمدونات الخاصة على واحدة أو أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي المتوفرة على شبكة الإنترنت. مع الأسف يمكن القول إن أداء الإعلام الوطني الرسمي والشعبي والحزبي -من حيث مضامينه ورسالته وأهدافه الوطنية الإستراتيجية- ظل على الدوام أسير مفاهيم وقناعات فكرية ماضوية، ومسخراً لخدمة مصالح ومشاريع خاصة، فكل طرف مالك لهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، لا يرى فيها أكثر من مجرد أداة ذاتية خاصة معبرة عن مصالحه، وفي الكثير من الحالات تحول بعض العاملين مع وسائل الإعلام الخارجية، وكذلك الوسائل الإعلامية الوطنية الممولة أو المدعومة من الخارج، إلى أداة لتمرير ما يريده هذا الخارج ويعبر عن سياساته وقناعاته ويخدم أهدافه المراد تحقيقها على الساحة اليمنية من خلال تقديم رسالته السياسية إلى الجمهور بعباءة إعلامية وطنية.. الأمر الذي أفقد الحريات الإعلامية الديمقراطية أهميتها ورسالتها الوطنية في ظل وجود إعلام عاجز عن التمويل الذاتي والعمل بحرية واستقلالية، فالإعلام الممول من مصادر تأتي من خارج سياق نشاطه الذاتي يكون بالضرورة أداة مسخرة لخدمة الممول وتحقيق مصالحه وأجندته وأهدافه. التعدد الكبير للصحف الوطنية والجهات الناطقة باسمها ومحدودية إمكانياتها وضعف انتشارها، هذا التعدد لا يعبر في مضامينه وأهدافه وتوجهاته عن واقع التعدد الديمقراطي السياسي والإعلامي بمفهومه السليم بقدر ما يعكس هشاشة البنية الاجتماعية والسياسية وما يعتريها من ضعف وتمزقات وأمراض وتناقضات اجتماعية وسياسية مزمنة عجزت الديمقراطية عن معالجتها وتجاوزها، بقدر ما كشفت أعراضها وأظهرتها إلى السطح، هذه وغيرها من الأسباب حالت دون نجاح الإعلام الوطني في تقديم رسالة ثقافية سياسية تربوية وطنية فاعلة وموجهة لتحقيق أهداف وغايات وطنية تنموية حضارية تدافع عن حقوق ومصالح الوطن والشعب وتسهم في تعزيز لحمته ووحدته وثوابته، وتحميه وتحصنه ضد مختلف المشاريع الصغيرة والنزعات العصبوية الداخلية وضد التدخلات الخارجية وموجات الغزو الفكري والثقافي التي تنهال عليه من مختلف الاتجاهات والمشارب. بغض النظر عن الظواهر والأدوار الإيجابية التي لعبها الإعلام الوطني في إشاعة الديمقراطية كمبادئ وقيم وفكر وممارسة داخل المجتمع، وبما أحدثه من حراك اجتماعي وسياسي ومعرفي وممارسة للرقابة والنقد، إلاّ أن هذه وغيرها من الأدوار والظواهر الإيجابية كانت مرحلية ونسبية محدودة الأثر، ولا تساوي شيئاً إذا ما قورنت بسلبياته ومخاطره على العملية الديمقراطية والمجتمع بشكل عام، لأن الإعلام المُعد والممول والمسخر لتحقيق أهداف ومصالح ومشاريع ذاتية أو حزبية لا تمتلك أبعاداً ومقومات وطنية مشروعة أو متناقضة مع مصالح الشعب العليا وأهدافه وتطلعاته الإستراتيجية يتحول بالضرورة إلى وسيلة للهدم والتدمير وإعاقة وتقويض البرامج والمشاريع الوطنية التنموية ويغدو أحد مصادر إنتاج وترويج الأزمات والتوترات الداخلية، وهذا بالذات ما ينطبق على الكثير من الإصدارات الإعلامية الوطنية التي ظلت رسالتها موجهة لتعميق التصدعات والتمزقات السياسية الاجتماعية ونبش جراحات وأمراض الماضي وصراعاتها الاجتماعية والسياسية بهدف إنكائها واستغلالها سياسياً لغايات غير مشروعة.