الضجة الكبيرة التي أثيرت حول عرض مسلسل عمر (الفاروق) رضي الله عنه ، أعادتني إلى قصة أبي سعيد الهروي , وهو قاضي دمشق في زمن المستظهر بالله .. حينما التجأ إليه بعض المقدسيين في أعقاب احتلال القدس من الصليبيين ، فما كان منه إلا أن سافر إلى بغداد لمقابلة الخليفة طلبا للنجدة ، فحدث أن وصل بغداد في يوم جمعة من شهر رمضان ، فقصد الجامع وتظاهر بأنه يأكل أمام الصائمين الذين ثاروا في وجهه، فتفل ما في فمه ، ووقف بينهم وقال : أتغضبون لدينكم لأن رجلًا يفطر في رمضان، ومقدساتكم تستباح، والمسلمون يُقتلون على أيدي الصليبيين بالآلاف فلا تهتز لكم شعرة ؟ لا أعرف ما الذي يجعل بوصلة رد الفعل الاجتماعي غالبا ما تتجه في الوقت الخطأ إلى الاتجاه الخطأ فعوضا عن أن يكون هذا الاحتشاد الاجتماعي الصاخب موجها لما يحدث في سورية، بعد أن تحولت ينابيع بردى والفيجة ، ومياه العاصي والفرات إلى اللون الأحمر، وأصبحت دماء السوريين موضعا للمساومة بين الروس والصينيين والإيرانيين من جهة ،والغرب من جهة أخرى، غص تويتر والفيسبوك وكل أدوات الإعلام الجديد بالحديث عن هذا المسلسل الذي لن يقدم ولن يؤخر، تماما مثلما انشغل الناس قبل مئات السنين بمن يفطر في رمضان عن استباحة المقدسات وذبح الآلاف في فلسطين . لو أن هذه الهبّة المضرية العاصفة توجهت لبعث رسائل عملية لمن يقف خلف النظام السوري، ويدعمه بالسلاح والفيتو كمقاطعة البضائع الصينية والروسية، وهي اللغة الأكثر تأثيرا في تلك الدول .. لوفرنا على أشقائنا السوريين الكثير من الدماء التي تراق هناك بلا حساب، ولانتصرنا لهم بما يجعل تلك الأكفّ التي ترتفع في مجلس الأمن حتى قبل النطق بالقرار تعود للعد إلى الألف قبل أن تفعل، لتعيد حسابات الأرباح والخسائر التي ستكلفها تلك السواعد الممدودة برخص القتل للمواطنين السوريين، لكن يبدو أننا كعرب تحديدا مصابون بشيء من التورم العاطفي الذي يستطيع أن يصرفنا بغمضة عين عن أهمّ القضايا لننصرف إلى ما هو أقل منها شأنا فقط بسبب حداثته، فعلنا هذا مع قضية فلسطين التي كنا نسميها أم القضايا، وإذا بها اليوم جنين صغير على هامش الأخبار لا يكاد يُرى حتى بالمجهر، لأن تسارع الأحداث أصبح يقود بوصلة المجتمعات إلى كل ما هو جديد بصرف النظر عن قيمته الموضوعية، ويبدو أن الآخرين أدركوا فينا هذه الخصلة، فبادروا في اللعب عليها كلما أرادوا أن يمرروا ما لا يريدون أن يتنبه إليه أحد .. حتى إنني بت أشك أن بمقدور أي حادث سير عابر على إحدى طرقات العالم العربي قادر متى ما كان ذلك الحادث تحت زوم الكاميرات على أخذنا عاطفيا إلى اتجاه آخر، لننسى في الأساس أن ثمة ثورة في سوري شارفت على العامين . ومشكلة رد الفعل العاطفي هذه، أعتقد أنها أصبحت جزءاً من ثقافتنا، وازدادت تجذرا بفعل أدوات التواصل الاجتماعي، في ظل : (انشر تؤجر) ، أو (لا تدع هذه الرسالة تتوقف عندك) والتي تستعمل أحيانا بلا تبصر ، وهذا ما سيجعلنا بالنتيجة رهائن لهذه الثقافة ، ويزيد من حجم ملفات قضايانا المؤرشفة التي ستدفن بولادة كل ما هو جديد حتى ولو لم يكن بحجمها وبأهميتها.