الحنين مكان آخر في الذاكرة لا يدل إليه درج أو حديقة. سير إلى الوراء بلا نهاية بحثا عن وجه يشبه ملامح أطفالنا. وهو واقع لم يعد لنا فيه أنامل لنعزف بها على أوتار الأمل. والحنين نفسك بالأمس، تراها من خلف زجاج ملون تخطه قطرات المطر المنسابة من أعلى. وتلة عن يمين طريقنا في الحياة أينما اتجهنا، ترفع باقة من الورد إلى السماء تظللها شجرتنا المفضلة. وهو حياتنا في اتجاه آخر، في طريق ممهدة بحجر مربع بحجم قبضة يد طفل صغير. وقطعة منا سقطت، لتظل في يدنا إذ لم يعد لها مكان فينا. ملاءات مجعدة نفرشها على أرائك جداتنا. طيور مهاجرة بين القلوب التي تفرقت بالسفر. موائد خالية من رائحة القرية والسنابل. ومطر لا يسير فيه أحد. هو فسيفساء الماضي في محراب مستقبلنا الذي أخطأنا الطريق إليه. مرج بين جوانحنا تطير في سمائه مناطيد ملونة. ظلال أعمارنا تطويه زفرة على ما فات. مرض طفيف يزيد مساحة الكلف الذي نطويه بين جوانحنا فلا يُرى إلا في مرايا الحب. طاق من الآجر الأبيض في جدار أحزاننا الأزرق. طوق من الرياحين على جيد حاضرنا الغض لا يراه أحد سوانا. ماء نافورة تمحو من ملامحنا التجاعيد التي رسمتها ريشة التجربة. بحة دمنا بعد أن نغص بالذكرى ونبحث عن صوتنا في جرار العاطفة. ياسمينة تطل من بين عشب الماضي ونحن نصعد هضبة يومنا العادي على دراجة العمل النحاسية. محطة تمر بها ذاكرتنا المدربة على النسيان ولا تقف عندها. هرة تنسل من بين سياج الضلوع وتحك نبضنا المتعب من وجع الحياة بفروة ذيلها وتمضي. أسطورة صغيرة مكتوبة على جدار القلب بماء العين. ميناء قديم يختفي خلف ضباب رمادي هجرته القوارب. وللحنين عمل خاص في متحف عمرك الصغير بين لفيف من شجيرات همومك اليومية، فهو يجلس في ركن شحيح الضوء مثل حداد ماهر ينقش اسمك على سيف الوقت بكل ما تعلق باسمك من جغرافيا: أسماء القرى، تعرجات الساحل الحجري، دكنة القلاع المطلة على البحر، أقواس الرمال الهلالية في صحراء يقسمها نهر إلى نصفين. وفي وقت فراغه يعد قهوته فيك بكل هدوء في غمرة انشغالك بقراءة الجريدة، أو وأنت تشاهد مباراة لكرة القدم. وحين تخلو بنفسك يضيء لك قناديل السكك القديمة في مدن الذاكرة، لتسير وحدك إلى أن تقف عند عربة تفاح بدأك بالسلام صاحبها، وتسأل وأنت تقضم تفاحة: أين الطريق إلى نفسي؟