اذكر صورته خلف زجاج النافذة، بلحيته الطويلة البيضاء وشعره المجعد وشاربه الكث، حينها كانت القرية في موسم المطر، أزاح الزجاج المغسول بالقطر، ليصدر صريرًا قصيرًا متقطعًا، لا أذكر حينها أنني قرأت ملامح وجهه الباقية عدا تلك الابتسامة المقطوفة من غابة الشعر تلك. تلفت التلاميذ يقرأون وجوه بعضهم المشدوهة: إنه الأستاذ الجديد! المدرسة ذات دور واحد من ستة فصول، تقوم فوق تل صغير أخضر السفوح، ويتعرج في سفحه الشرقي طريقًا للمشاة، يعزل في ضفتيه شجيرات وحشائش يسندها جدار حجري مرصوف بإتقان، وهناك في مواجهة بوابتها الصغيرة تمتد باحة صغيرة للعب، تتحوّل ليلًا إلى مرابض للكلاب وضال الدواب. غشيني حزن للوهلة الأولى، فتلك الابتسامة لم تكن كافية لتنزع عنه صرامة اللحظة، ولم تكن لتمحو أيضًا وجه عبدالحميد الأستاذ، ناعم الوجه وهاديء الطباع. عرّفنا بنفسه، فكنت أراقب اهتزاز لحيته وتراقص حاجبيه، وحين أنهى حديثه كانت عيناي تحطّان فوق كفه المعروق الكبير. أشار بيده إلى الفضاء خلف النافذة: هيا اخرجوا! ثم تابع وهو يتمعن وجوهنا الصامتة: - أليس من الظلم أن تظلوا في هذا الصندوق في هذا اليوم المطير الرائع، كان يشيح بوجهه نحو السماء الداكنة، وبدا بعض من الشعر الأسود القليل الأشبه بجذور شجرة يموج في صفحة وجهه ناحيتنا. تلفت التلاميذ وسُمعت سيقان الكراسي وهي تبدل أماكنها زاحفة. - لا تحملوا كتبكم، احملوا ما شئتم غيرها! ثم انسحب مبتعدًا مع صرير غلق النافذة. حملت كراسة الرسم وخرجنا نتراكض متدافعين، غير مصدقين حتى اللحظة ما يجري حولنا. كان يسير أمامنا بجسده الضخم، جسد يجعلنا نبدو خلفه كقطط غبراء متناثرة. أشار إلينا بالجلوس فوق النتوء الصخري وهو يقف عند حافة الباحة، يمتد جسده نحو السماء، يباعد بين قدميه ويتأمل انحدار السفح الذاهب إلى مدرجات الوادي. استدار ناحيتنا، تغوص قدماه في التربة المبتلة، وتعلق قطرات خفيفة على منحدر لحيته، تبدو وكأنها تبحث عن سقوطها المنتظر. أجال عينيه التي تنبّهت الآن إلى صغرهما، ورأيته يتأمل بعينيه شبه المغمضتين كراسة الرسم بيدي، وفي أيدي الأطفال كانت كسرات من الخبز، ودفاتر، وأيادٍ أخرى صغيرة فارغة. هناك من ناحية القرية كانت تسافر نحونا أصوات متقطعة، ثغاء وخوار وصياح نسوة، وبالقرب كانت زقزقة عصافير تختلط برعد ينمو عند قمم الجبال البعيدة. قال وهو يغرس سبابته في غابة شعره: - هيا.. ليقل كل واحد منكم حلمه. التفت ناحية الطريق المتعرج: الحلم هو الطريق المضيء للمستقبل، وكانت سبابته تتجه نحو المنحدر. تشير إلى تعرج الطريق. - ماذا يود كل منكم أن يصير؟ تناسجت رغبات صغيرة في الفضاء الرحب، يستمع إلى منابت الكلام بين شفاه صغيرة ويسير في دائرة حولنا، يرفع رأسه نحو التماع البرق، ثم يتابع خطوه البطيء المتزن. - جميل.. جميل.. تابعوا. كان الرعد لا يزال يدوي بعيدًا، والسماء تهمي بخفيف الماء حين انحنى ومد يده نحو كراستي.. - هاه.. أرني ماذا رسمت؟، كنت أضم كراستي نحو صدري، بينما تنبسط راحة كفه بيضاء كالرحى المستديرة أمام ترددي. - جميل ورائع!، قالها وهو ينشر الصفحة في عيون الأصدقاء. أذكر إنني دفنت رأسي بين ركبتي وأنا أسمع قهقهات الصغار من حولي، ويد غليظة ترفعني تحت إبطي. - انهض، هيا قم كرجل وأرنا وجهك. - ستصبح رسامًا عظيمًا، إن ملامح وجهي التي رسمت ليست هي من أضحكهم. إنه الإحساس الذي زرعته الصورة في نفوسهم. - ارفع رأسك وتذكر هذه الصورة ذات يوم.. تذكر هذه الضحكات.. تذكرها جيدًا! بدأت السماء تهمي بوابلها حين نهض التلاميذ، أشار إليهم بالدخول بينما يستريح ثقل يده فوق صغر كتفي. - هيا الحق بهم. قلت لي إن اسمك سعيد. كان يربت على كتفي وبدت تلك الابتسامة الأكثر اتساعًا كبئر في غابة شجرية كثيفة، انطلقت راكضًا ضامًا كراستي الملتصقة بجدار صدري، وقبل أن أغيب عبر بوابة المدرسة الصغيرة سمعته يناديني بصوته الذي يدوي ببحته المرعدة: - حاذر من الوحل يا سعيد.. لا توقع الكراسة!