بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أخيراً. الحلم الذي رافقني في طفولتي، ثم تخليت عنه في مرحلة ما من مراحل حياتي في خضم رحلة الأسئلة المعقدة والخارقة لمألوف ما تعلمته في المدارس وفي البيت تدريجيا، والتي لم أجد لها إجابات مباشرة وأنا أكتشفها بين سطور ما أقرأ من كتب فلسفية، ثم أعدت صناعته بشكل جديد يتوافق مع آرائي واهتماماتي الجديدة ولا يخدش الشكل المقدس له، ثم عدت إليه بفطرته الأولى، وسمته الطفولي، وروحه العفوية، وأنا أعبر بوابة الأربعين من عمري.. ها هو يتحقق أخيراً بكل بساطة. ها أنذا بين يدي سيد الخلق الذي قرأت سيرة حياته فتوقفت عند بعض المحطات بلا دليل ولا بوصلة تهديني سواء السبيل كما أشتهي، وكما أحلم. كان السبيل الوحيد السوي أمامي هو ذلك السبيل الذي رسمه الآخرون في كل ما قرأته حتى ذلك الوقت. سبيل جميل ومريح لكنه مألوف. سبيل جاهز سلفاً ولا مجال فيه لأي اكتشاف جديد ولا خطوة غير مسبوقة. سبيل مشى عليه قبلي الملايين من البشر، المسلمون تحديدا، فلم أعد أجد فيه تلك الدهشة التي كانت أحد صور الحلم الدائم بالنسبة لي. ها أنذا الآن، أعبر منتصف الأربعينات من عمري نحو فهم جديد ليس للحياة وحدها بل صورة أخرى للحلم، وها هي واحدة من تجليات تلك الصورة تبدو واضحة جلية أمامي في حضرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، النبي الأمي الذي قاد أعظم ثورة في التاريخ، بقوة إيمانه بتلك الثورة أولاً، وبأمل لم تخبُ جذوته حتى في أشد محطات الرحلة إظلاماً وظلماً ثانيا، وقدرة على فهم الآخر دائما. لا أدري إن كنت سأعتبر تلك اللحظات بداية الرحلة أم نهايتها... أم جوهرها كله. لكنني على الأقل كنت أعرف أنها لحظات لن تتكرر حتى وإن تكررت الزيارات لاحقاً. أعرف أن أسئلتي المعقدة لن تجد إجابات حاسمة لها، فقد تعودت على ذلك الأمر. أعني أنني تعودت ألا أجد إجابات حاسمة لكل أسئلتي لأنني كنت قد تأكدت أن تلك الأسئلة لا إجابات حاسمة لها نهائياً، ولأنني أيضا اكتشفت أن أجمل الأسئلة هي تلك المعلقة بانتظار اليقين..ولا يقين. وكلما تكاثفت غابة الأسئلة حولي وأنا أمضي فيها نحو أعمقها كنت أستشعر المزيد من الجمال فيما أرى وفيما أسمع.. فيما أقرأ وفيما أتعرف..ولاحقا، وبصورة أقل فيما أكتب أيضا. المساحات الواسعة داخل الجزء المخصص للنساء من المسجد النبوي تفضي الى مساحات أخرى، مساحة تفضي الى مساحة، وبوابة تنفتح على أخرى.. لكنها بوابات مهادنة بلا أبواب..بل مجرد معابر داخلية مؤقتة يسهل تغيير مكانها كما يبدو. وفي كل مساحة أجتازها أمر بنسوة يفترشن السجاد ذي اللون الأخضر، ويتوزعن بالقرب من الاسطوانات الضخمة المتوزعة بدورها في المكان بترتيب هندسي دقيق. لماذا هن هنا وهنا وهنا؟ لماذا لا يتقدمن مثلي لذلك الهدف الذي اقتربت منه كما يبدو حيث مثوى المصطفى في حجرته الخالدة، وحيث منبره المضيء نوراً كما تخيلته دائما، وحيث ما بينهما من جنة مشتهاة؟ واضح أنهن زرن المكان المنشود قبل ذلك، وأنهن الآن في مهام تعبدية وحياتية أخرى خارج الروضة وبالقرب منها. أكثرهن كن يقرأن في مصاحفهن ذات الأشكال الموحدة كما بدا لي منذ الوهلة الأولى، وبعضهن كن سادرات في صلاة لا تنتهي، وبعضهن تجمعن في دوائر صغيرة حول أحاديث خافتة، وبعضهن منسجمات بشكل منفرد مع المكان بوضعيات مريحة وخاصة. لم أكن أتفحص الوجوه ولا الوضعيات بدقة وأنا أتجه الى حيث تتجه النساء اللواتي عبرن البوابة تلو البوابة معي. لا بد أننا متجهات إلى الروضة الشريفة التي أخبرتنا إحدى السيدات الواقفات عند الباب أننا محظوظات لأنها مفتوحة لنا هذا الوقت. فهمت لاحقاً أنها ليست مفتوحة دائما أمام النساء، وأن القائمين على شئون المسجد النبوي يخصصون أوقاتاً للنساء كي يزرنها بعيداً عن أعين الرجال.. واضح تماما ذلك الحاجز شبه القماشي الذي يلف المكان ويفصله عن المساحة الأكبر من المسجد. وواضح أنه حاجز مؤقت بطريقة ما. لهذا المكان خصوصيته إذاً ضمن خصوصية المسجد الثاني في ترتيب اهتمامات المصلي المسلم. ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:« لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»؟، ألم يقل أيضا: « صلاةٌ في مسجدي خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحرامَ»؟..ها هي خصوصيته الجديدة تتكون لديّ وأنا أدخله لأول مرة. وصلته أخيرا. لكن زحمة المصليات فيه لم تسمح لي إلا برؤية الاسطوانات المحيطة وأجزاء قليلة من الأرضية ذات السجاد الأخضر اللون، وقليل من الجدران.. انسبت بين الجموع أبحث عن مكان أصلي فيه التحية المعتادة للمسجد. ليست معتادة تماما، فهنا يختلف الزمان والمكان عن كل زمان ومكان، وتختلف التحية عن كل تحية، لكن الصلاة واحدة. تذكرت موهبتي الطفولية في اختراق أي تجمع أريد اختراقه.. لا أدري كيف اكتسبت تلك الموهبة،لكنني كنت دائما أبلغ هدفي في كل زحمة أجد نفسي فيها دون مشاكل تذكر..وها أنذا الأن أبدو منسابة بنعومة بين حشد النساء شبه الواقفات. ألمس كتف هذه ببساطة، وأبتسم في وجه تلك، وأسأل الثالثة أي سؤال يجعلها تفسح لي المكان أمامها لا إراديا ربما وهي تجيبني عليه.. وهكذا وجدت نفسي خلال ثوان معدودات، وعلى الرغم من الزحمة الرهيبة وأنا أقف في موضع مثالي تقريبا.. على يميني المنبر النبوي الشريف والذي لم أر منه بسبب الحاجز سوى أعلاه، وعلى يساري جدار الحجرة النبوية الشريفة.. انقطعت الهمهمات التي كنت أسمعها فجأة الآن. انقطع صوت العالم كله، أم لعلي أصبت بالصمم؟ لا أدري.. لكنني أعلم أنني لم أعد أسمع أي شيء على الاطلاق.. اختفت حاسة السمع مني نهائيا. والغريب أنني لم أستغرب اختفاء الأصوات كلها. ولم أخش أنني فقدت حاسة السمع نهائيا. لم أفكر بذلك بل لعلي استرحت للفكرة، وأحببت ذلك الصمت الذي غافلني فانساب لوجودي فجأة. لم أتساءل حتى: أين ذهب صوت العالم؟. كنت أريد أن أسمع صوتي وحده وأنا أحيي من جئت لتحيته والصلاة في مسجده. وبصوت عال لا أدري ان سمعه حولي العالم الأخرس الآن أم لا، انطلق لساني بالتحية المؤجلة: السلامُ عليك يا حبيبي يا محمد.. السلام عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته.. ألقيت تحيتي..وانتظرت قليلاً.. أصيخ السمع هذه المرة بكل جوارحي.. لعلّي!. (يتبع)