تؤكد الدراسات النفسية والتحليلية على أن الإنسان بفطرته فنان. وتشهد الدراسات الأنثروبولوجية على اهتمام الإنسان الأول بالأسس الفنية القائمة على التآلف والتناسق والانسجام بين الأشياء التي يتعامل معها في حياته وممارساته اليومية، كما يتضح ذلك من خلال النظر في طريقة صناعة أدوات الصيد وأدوات الزراعة وأواني الطعام والتماثيل عند الشعوب القديمة. وقد عاش الإنسان الإيقاع الموسيقي المتناغم وهو في بطن أمّه من خلال نبض قلب الأم، ومارس هذا الإيقاع من خلال التنفس والحبو والمشي ومختلف سلوكه اليومي القائم على حركة وسكون (وهما المكونان لمنظومة الموسيقى). وإذا نفذت هذه المنظومة إلى حسّ الإنسان وملكت عقله تشكلت من خلالها رؤيته الفنية للعالم. ومن الطبيعي أن يكون الإيقاع الخارجي الذي يحاكي الإيقاع الداخلي - وهو ما تقدّمه الآلات والأدوات المصنوعة وكذا عناصر الطبيعة كالريح والمطر وحركة الأشجار وأصوات الطيور - جذابًا لهذا الإنسان ومؤثرًا عليه. ومَن نشأ منّا في القرية أو في الحارة الشعبية أو في البادية فقد عاش الروح الفنية التي يراها في تمايل الأشجار واهتزاز الأعشاب مع حركة النسائم وتراقص عسبات النخيل وانسجام حركات الطيور والفراشات وجمال الألوان في الكون، ويسمع الإيقاع المتناغم من الطيور في الصباح ومن زخّات المطر ومن هدير المياه، ويشمّ الروائح العطرية التي تفيض بها الزهور والورود. وتتكون لدى هذا الشخص منظومة متكاملة تجعله يحسّ بالجمال وفق المقاييس التي تربّى عليها مع الطبيعة؛ فيطرب لسماع الصوت النديّ، وينتشي مع الإيقاع التفاعلي الذي يُشبه زخّات المطر، ويهدأ مع الإيقاع الساكن الذي يُشبه هدير الحمامة، ويُدرك بحاسته الجمالية مكمن الحسن في المنظر والصوت وما يرافقهما من انسجام وتناغم لا تنافر فيه ولا تشتيت. لكن الحياة الحديثة المعاصرة، التي جعلت الطفل ينشأ في شقة مغلقة لا يسمع سوى أصوات السيارات وأنين سيارات الإسعاف وصخب أجهزة التلفزيون والجوال، قد لا تساعده على تكوين حسّ جمالي نقيّ بمثل ما كان عليه الطفل الذي عاش مع الطبيعة مباشرة. ومع هذا، فالطفل اليوم يكتسب نسخة مقلّدة من الفن، وهي التي تصدرها الآلات الموسيقية والأدوات المحيطة به. وبعض الأطفال يُدرك بحسّه أصول هذا الفن، فيتعرّف على معايير الجمال الحقيقية ويقيس عليها، وبعضهم تضيع عنده الهوية الفنية فلا يعرف خطًا مُحددًا يضبط إيقاعه النفسي والفكري عليه. وهذا ما يُفسر لنا ظهور أشكال فنيّة جديدة تبدو غير مألوفة لنا كاللوحات الفنية التجريدية، أو قصيدة النثر التي تخلو من الوزن، أو الأغاني التي تستخدم اللقطات السريعة للتغطية على ضعف الإيقاع الموسيقي في الصوت أو الكلمة أو الأداء. وقد لاحظت أن أطفالي ينسجمون مع أغانٍ غربية، وكنت أتوقّع أن ذلك عائدًا لنشأتهم في أمريكا، من منطلق أن منظومة إيقاعهم الفني تكوّنت وفقًا لشروط الطبيعة هناك، حيث الغابات الكثيفة والأمطار الدائمة وصخب المدينة. ولكني وجدت الأمر نفسه مع الأطفال الذين في عمرهم ممّن لم يخرجوا من السعودية؛ ولهذا فإني أخمّن أن إيقاع المدن صار متشابهًا، فمدينة كالرياض صارت تشبه نيويورك والقاهرة ودلهي في الإيقاع الصوتي والمرئي الذي يسمعه الناس ويشاهدونه، ولم تعد هناك فرصة لأحد لكي يستمتع بالطبيعة التي يتذوقها مع نسمات الصباح ويتابعها طوال يومه حتى يخلد إلى النوم وعيناه تراقبان انسجام النجوم وتتموجان مع حركة الغيوم البديعة وهي تُخبّئ القمر تارة وتُظهره تارة أخرى. ومع غياب مقومّات الفن الطبيعي في حياتنا اليومية المعاصرة، فقد غاب كذلك التعبير عن الفن من مناحي حياتنا؛ فلم تعد هناك حفلات موسيقية أو غنائية ذات قيمة كبيرة، ويظل الشغوفون بالفن الأصيل يترقبون حفلة ربما تُقيمها سيدة الغناء فيروز مرة كل عامين، أو أغنية لمحمد عبده أو سعدون جابر أو غيرهم من الفنانين المبدعين. والذي يراقب الوسط الغنائي لا يجد أسماء جديدة كثيرة ذات قيمة فنية أضيفت خلال العشر سنوات الماضية، فالغالبية من المغنين والمغنيات - ممن ظهروا مؤخرًا - يغلب عليهم الهواية والتقليد، ولم يتمكّنوا من الفنّ، وزاد الأمر صعوبة أن الكلمات الشعرية الملهمة التي تصلح للغناء لم تعد متيسّرة. ولأن النفس الإنسانية مفطورة على حب الجمال، فإن المثيرات الخارجية التي نحسّ بها يجب أن تنسجم مع طبيعة مكونات الإيقاع الجمالي داخل النفس لكي تؤثر في المرء وتجعله يشعر بالمتعة ويُقدّر جمال الحياة التي يعيشها. والفن حاجة وضرورة للإنسان الذي ملك الخيال والفكر والإحساس وتميّز بذلك عن الحيوان. وإذا كان الفن مرتبطاً بالفضيلة (أي اتحاد الحق والخير والجمال)، فإن دوره - كما يقول العالم النفسي ثروت عكاشة - "لا يقف عند إبداع الجمال وتحقيق أسمى متعة للإنسان، بل إنه كذلك ينفذ إلى أعماق المرء ليوائم بين أمزجته فيحفظ اتّساقه الكلي". وإذا تأمّلنا واقع الشباب اليوم وما يصدر منهم من عبث وفوضى واضطراب، فإننا نُدرك أن ثمة دورًا غائبًا للفن في حياتهم، ذلك أن شهوات النفس تضطرم وتتأزم، فإذا لم توجد الوسيلة الفنية للتعبير عنها، فإنها تُصاب بالكبت فيعجر صاحبها ويُصاب باختلال نفسي وعقلي يجعله يخرج عن التقاليد والقوانين ويُسيء إلى نفسه ومجتمعه. وهذا ما يؤكده علماء التحليل النفسي، ومن قبلهم شرح ذلك الفيلسوف أرسطو في نظريته "كاثارسيس" المعروفة بالتطهير. وقد عبّر من خلالها عن أثر الفنون في تخليص النفوس من الأهواء والانفعالات الضارّة وإزاحة ما تعانيه من قلق وتوجّس، ثم إن الفنون لديها قدرة على تأجيج قدرتنا على التسامي والاستشراف، فيصل المرء بذلك إلى الاتزان والسكينة العقلية؛ وهو مطلب البشر جميعًا.