وقبل أن نجيب على تساؤل ما علاقة هذه التسجيلات في حفظ تراثنا وخطوة التجديد في الغناء في القرن الماضي؟. فإنه يلزم الإشارة إلى أنه لولا تعاون السيّد محمد سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن البخارية، مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين لما نجح هورخورنيه في توثيق تلك التسجيلات المتنوعة من فن الدار، والدور المصري، والمجس (الموال الحجازي). ويروي الكاتب محمود صباغ في مقالة "أصوات وأضواء مكة" -بلا إحالات مصدرية- ما يفسر المعلومة التي أوردتها سريعاً هند با غفار في كتابها " الفنون الشعبية" "كيف شحنت تلك الإسطوانات بعد الفراغ من تسجيلها من مكة عبر قنصلية هولنده في جدة الى جاكرتا حيث مقر إقامة سنوك على دفعات زمنية طويلة من 1907 الى 1920م . وأودعها سنوك ارشيفه الشخصي – قبل أن يهديها الى معهد الدراسات الشرقية في لايدن سنة افتتاحه عام 1927م – حيث اشتغل سنوك بالتدريس الى وفاته". وأشار صباغ إلى أنه "ظلت تلك الاسطوانات حبيسة أضابير مُغلقة حتى بعثت من مرقدها عام 1983- اذ تم استخراج 150 اسطوانة شمعية من الركام – لكنها لم تر النور سوى بعد مرحلة شاقة من الفرز والتحليل والتفكيك والمعالجة الفنية في عام 1994 بتعاون اشترك فيه مركز الدراسات الشرقة في لايدن، ومتحف هارفارد للثقافات الساميّة، واكاديمية ارشيف الفونوغراف في فيينا". ولعله من الملفت أن تلك التسجيلات حفظت بأصوات منوعة من أشهرها لمؤذن وجسيس يدعى جابر أحمد رزق، وهو صنعاني من اليمن الشمالي جرياً على عادة استجلاب المغنين المجوِّدين من جنوب الجزيرة العربية بالإضافة إلى بعض تلك التسجيلات حفظت أيضاً بعض الأحاديث والمسامرات، وهي بلهجات حضرمية وزنجبارية بالإضافة اللهجة المستهدفة لمستعربين جاويين. وهذا التنوع راد إلى ظاهرة "المواطنة العالمية" لكون مكةالمكرمة مدينة دينية منفتحة على كل البشر من المسلمين. ويعرف أن المدن الدينية، على غير المدن التجارية والسياحية والثقافية مثلاً، لها خصائص بقدر ما تشترك مع سواها من المدن فإنها تتمايز عنها. فإذا كانت ميزة "التعدد البشري" سواء الاستيطان أو الإقامة يمنحها طابعاً خاصاً، فإنه تجلى ذلك بما وصفها ذات الرحالة الهولندي قاصداً مجتمع مكةالمكرمة حين زارها مع جدة بين عامي 1884-1885 بأنه رأى "كثيراً من الأتراك والمصريين والسوريين والبخاريين وسكان آسيا الوسطى بالإضافة الى الهنود قدموا الى مكةالمكرمة للحج ثم امتهنوا التجارة حيث يقدم كل واحد منهم إلى مدينته المتواضعة الكماليات التي تبهر بوجودها جموع الحجاج والمجاورين" (صفحات من تاريخ مكةالمكرمة (1889)، ص:311، 1999).