عندما عاد "سعد" الرجل الستيني هو وزوجته من حفل زواج ابنهما الأخير.. تجمعت فوق رأسيهما سحابات الصمت المُخيّمة على حياتهما طوال العشر سنوات الأخيرة.. مُتلبّدة ومُنذرة بهطول طال توقعه، وبعد صمت.. قال لزوجته وأم أولاده "أنتِ طالق..!"، عندها لم يبد الأمر مُفاجئاً لكليهما بقدر ما كان مؤلماً لها.. فما كان منها إلاّ طأطأت رأسها مُكتفية بتنهيدة طويلة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، حتى استجمعت قواها قائلةً "هذا أمر طال تأجيله.. وإن شاء الله فيه خير لنا جميعاً". ما سبق ليس نسجاً من خيال وإنما قصة واقعية رواها صاحبها "سعد" ل"الرياض".. وعلى النقيض لا تزال حياة "أبو عابد" مع زوجته مليئة بالرضا والامتنان بعد أن تجاوزا 60 عاماً، حيث لا تزال علاقتهما الزوجية تزداد قرباً مع الزمن وكلٌ منهما يقول للآخر "الله لا يحرمني منك..". بدون حُب كيف ينظر الطرفان إلى الآخر بعد أن كبروا صغارهم حتى استقلوا في حياتهم الزوجية، البعض يعيش حياته مع الشريك الآخر بدون حُب وإنما "عادة"، وآخرون يصارعون الصبر سنيناً حتى يُفرقهما الموت، بينما توجد فئة قليلة ممن يتّخذون قراراً انفصالياً حاسماً يُنهي علاقة امتدت سنوات طويلة، وعندما انتهى مبرر الاستمرار لزم الانفصال.. وآخرون استمرت علاقتهما اختيارياً عن قناعة وحُب، لم يشعُرا بهما في سنوات زواجهما كُلها، وشَعرا بهما بعد أن انتهت "صجة العيال" وذهبوا في حالهم، وبقي الثنائي الأصل يملأ قلبيهما ترابط عاطفي؛ إدراكاً بسعادة منهما أنه موجود ويكبر يوماً بعد آخر. ثمرة عُمر ويرى "عبدالرحمن القراش" -عضو برنامج الأمان الأُسري الوطني- أن الزواج تداخل كياني ونفسي وفكري واجتماعي للزوجين معاً، ويتم بناؤه بالتدريج لفترة طويلة، مصداقا لقوله تعالى "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً"، مشيراً إلى أن الحياة الزوجية قائمة على مثلث "السكن" والمودة" و"الرحمة"، ووجود كافة أضلاع المثلث يعني أن حياة الزوجين رائعة مهما تقدما بالعمر، إلاّ أن لكل مرحلة من مراحل العمر معنى ورونق خاص، لذا فإن أطيب ما يجنيه الإنسان في خريف عمره هو التقدير والشعور أن قلوباً كثيرة تُحيط به، وخاصة الزوجين، حيث يكثر الالتفات إلى الوراء، ويقل التطلع إلى الأمام. وأشار إلى أن ما يزيد الأمر صعوبة من كان ماضيهما أشواكا وتراكمات غير جيدة؛ لأن الرجل في هذه الفترة يصل إلى مرحلة المعاش، فإن كانت الزوجة حملاً ثقيلاً طوال حياته الماضية فسرعان ما يلقي به ليفيق إلى نفسه ويحيا ما بقي من عمره في سعادة، فيبحث عن الآخر، وإن كان الزوج قاسياً وبخيلاً؛ فإن الزوجة تبحث عن الاستقرار النفسي والجنوح للتبتل والعبادة أكثر من الرجل؛ فتذهب مع أبنائها هرباً من جحيم ذلك الزوج، لافتاً أن المرأة تعترف بكل بساطة بوصولها إلى سن اليأس، في حين أن الرجل حتى وإن أصابه الضعف فى هذه المرحلة، إلاّ أنه يدافع عن نفسه ويُصر أنه ما زال شاباً دائماً. عبدالرحمن القراش هدم أسرة ووصف الطلاق أنه خطوة ل"هدم الأسرة"؛ وذلك يأتي عند وضع الأساس للحياة الزوجية مبكراً، أو يأتي متأخراً بعد العيش سنيناً عدة، وإنجاب أبناء، وتزايد الأعباء، ذاكراً أن كثيرا من الرجال لا يُظهرون متاعبهم أو مشكلاتهم النفسية؛ نتيجة وجود خلل في الأسرة، حيث يمكثون سنوات عديدة يعيشون بتعاسة في بيوتهم، دون أن يُخبروا زوجاتهم؛ ما يحدث انتفاضة كبيرة حين يكمل دوره تجاه أبنائه، وبعد أن يتزوجوا، يبدأ فاراً حتى وإن بلغ الستين عاماً للبحث عن نفسه ومن يشبعها حُباً وحنانا من امرأة أخرى؛ حتى ولو كان على حساب صحته ووقته وماله، موضحاً أن ما يشجعه على عمل ذلك هو شعوره أنه أدى رسالته تجاه أبنائه مادياً واجتماعياً وتعليمياً. وأضاف:"أما بالنسبة للمرأة فإنها تبحث عن الانفصال بعد الستين، عندما تكون قد وصلت إلى حواجز عدة من إقناع الرجل بالعدول عن تصرفاته الصبيانية، أو بخله، أو سوء عشرته، فهي أكثر تحمّلا من الرجل بعد الستين، ولكنها إذا فشلت فإنها تبحث عن السكن والهدوء، بعيداً عن ذاك الزوج المتعب؛ فتفضل البقاء مع أبنائها وبناتها بسعادة وراحة". سر العاطفة وذكر "القراش" أن الحب يبعث الحياة فى العقل والقلب والروح، ومن ثم النشاط والحيوية فى الجسد، وهو يُبنى على أساسين هما "الإعجاب" و"الامتنان"، موضحاً أن الأول هو انفعال لا يدَ لنا فيه؛ لأننا مفطُورون على الإعجاب بمن تتجسد فيه الصفات والخصال المثالية، بينما يُقصد بالامتنان بين المُحب للمحبوب؛ تجاه ما تلقاه منه من خير يُلبّي رغبته وحاجته، لافتاً أنه يوجد اختلاف بين الحُب المتولد من الإعجاب، والحُب المتولد من الامتنان، حيث إن المتولد من إعجاب يكون رومانسياً يزيد ويقل بحسب رومانسية الطرفين، أما الحُب المتولد من امتنان فهو حب هادئ يُسمّى حُب الصحبة والصداقة، وفي الحياة الزوجية يُمهّد الحُب الرومانسي الطريق لحُب الصُحبة الدائم عادةً. وأضاف:"الحُب لا أوان له فهو شعور مُشترك بين الشاب والكهل، والمرأة والرجل، مادام الإخلاص لشخص معين، والكبار في السن هم أقدر عادةً على هذا اللون من الحُب؛ لأن تجاربهم في الحياة جعلتهم يفرقون بين الجنس والحب؛ ولحاجتهم إلى ملء الفراغ النفسي الذي يشعرون به، والوحدة القاتلة بعد أن أنجزوا مشروعهم في الحياة، إضافة إلى عُمق مشاعرهم بعد أن صفت من نوازع الاندفاع والجنوح، ففي هذه المرحلة يكون العشق أصدق وأنبل". ودعا المرأة أن تُغدق على زوجها بالحُب وتخطب وده؛ كونها أكثر اهتماماً ورغبة في دفع مسيرة حياتها للأفضل، وهي قادرة على تغيير حياة زوجها كُلياً في مرحلة ما بعد الستين، فتبقي الود والتراحم، بينما يتوجب على الرجل معرفة أن الرجولة ليست مُجرد تركيب تشريحي أو وظائف فسيولوجية، ولكنها مجموعة من الصفات الحميدة مثل العدل، والرحمة، والمروءة، والشهامة، والشجاعة، والتضحية، والصدق، والتسامح، والعفو، والرعاية، والاحتواء، والقيادة، والحماية والمسؤولية؛ فالمرأة لا تحتاج في خريف العمر إلاّ إلى المودة والرحمة والسكن مع زوج يعرف قيمة تضحيتها بشبابها معه.