العنوان أعلاه روي عن الإمام أحمد بن حنبل وعن غيره.. وورد بتعبير آخر أكثر مبالغة: «تسعة أعشار الحكمة في التغافل» والمعنى يخص التعامل مع الناس وزلاتهم، ومع صغائر الأمور التي إذا أُخذت مجتمعة ملأت مساحة كبرى من العمر والوقت والجهد والصحة.. المراد هنا (الحكمة الاجتماعية) فإنه ما استقصى كريمٌ قط، بل هو يتغافل عن كثير من الأمور، ويتنازل - كرماً لا خوفاً - عن كثير من الحقوق، ويتجاهل عمداً وقصداً - لا غباء ونقصاً - أخطاء كثير من الخُلطاء، وهذا جزء من السعادة بل ومن تحقيق السيادة، كما قال البحتري أو جرير: «ليس الغبيُ بسيِّد في قومِهِ لكنّ سيَّد قومِهِ المتغابي» وجوهر الحكمة هو الحض على التسامح والترفع عن صغائر الأمور وتوافهها، فإن الحياة أقصر من أن نقصرها بالتوافه.. والسماحة جزء جميل من التغافل والتغابي، لكنها مغلفة بتقديم الظن الحسن على السيئ، متوجة بمحبة الناس، وإدراك طبيعة الحياة، وقد أكّد الحكماء أنه (لا سعادة بلا سماحة).. وهذا ينطبق على الحياة الاجتماعية في العمل والصداقة والزواج.. والتغافل عن أخطاء الآخرين - والتي إما أن تحدث بلا قصد أو عن ظروف نفسية أو من سفهاء - يدل على رجاحة العقل وحسن المروءة وطيب النفس والعشرة.. ويتفرع من هذا التغافل الجميل عن الأخطاء - وكل بني آدم خطاؤون وخيرهم التوابون - الإحسان وإن أساء الناس، وستر العيوب، وبهذا يرضي الإنسان ضميره ويحترم نفسه وتحسن سمعته، وقد صور ذلك شاعر قديم في أبيات جميلة: «وكنت إذا صحبت خيار قوم سحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم واحتمل الإساءة إن أساءوا وأبصر ما يصبهم بعين عليها عن عيوبهم غطاء»