في الآونة الأخيرة، ظهر مصطلح تربوي جديد يسمى التربية بالتغافل وهو الإغضاء عن هفوات الأبناء كنوع من مراعاة المشاعر والأحاسيس، وهذا النوع من التربية لم يكن وليد اللحظة؛ بل هو تراث قديم وعلم حرص السلف على غرسه في قلوب المربين. فقد نبه الله إليه في كتابه الكريم فقال: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير }. وقال الحسن : «ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض»، فهنا يرسي المولى عز وجل قاعدة تربوية راقية وهو غض الطرف عن بعض الهفوات والأخطاء والبعد عن إحصائها فكثير من الآباء عندما يخطأ الابن يعدد أخطاء الماضي والحاضر ويلوح بالمستقبل، وكذلك المعلم مع تلميذه. فلماذا التعاتب المكفهر لأبنائنا؟ كل منا يطلب من ابنه أن يكون معصوما. أليس التغافر والتغافل أولى وأطهر وأبرد للقلب؟! أليس جمال الحياة بأن تقول لأبنك كلما صافحته: «رب أغفر له»؟! أو ليس عبوس التعاتب تعكيرا للحياة ؟ (فكان الشاعر يمرح ويتغنى: من اليوم تعارفنا *** ونطوي ما جرى منا فلا كان ولا صار *** ولا قلتم ولا قلنا وإن كان ولا بد *** من العتب بالحسنى ثم يأبى إلا أن يزيد مرحه، فيبدل نغمته: تعالوا نطوي الحديث الذي جرى *** ولا سمع الواشي بذاك ولا درى من اليوم تاريخ المحبة بيننا *** عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى ثم يبدل نغمته ثالثة، ويتملق ليديم محبة لذيذة قد ذاق طعمها الفريد، فيقول: ولا تخدشوا بالعتب وجه محبة *** له بهجة أنوارها تتوقد). الداعية الراشد. فلا تخدش أيها الأب – بالله عليك – وجه محبة منيرة لا زلت فذا فيها والناس من حولك تستهلكهم العداوات، وإلا وضعت نفسك على شفير الاستهلاك. وقد ذكر ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد وهذا ذوق رفيع قلما يتحلى به المربي. وقال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصم فسرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقب بحاتم الأصم. من كان يرجو أن يسود عشيرة *** فعليه بالتقوى ولين الجانب ويغض طرفا عن إساءة من أساء *** ويحلم عند جهل الصاحب وقيل: «تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل»، وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور. والحسن البصري يقول: «ما زال التغافل من فعل الكرام»، وأنشد الشافعي: أحب من الإخوان كل مواتي *** وكل غضيض الطرف عن عثراتي وما أجمل قول الأعمش -رحمه الله -: (التغافل يطفئ شرا كثيرا). ضوابط التربية بالتغافل: التغافل غير الغفلة، التغافل فن يستخدم في وقت ويتخلى عنه في وقت، إعلام المربى بالتلميح عن غض الطرف عن بعض الزلات حتى يتحرج ويبتعد عن استمراره في الخطأ. * مدرب ومستشار أسري [email protected]