قديماً قيل «المال عصب الحياة» واقول المال عصب التعليم وشريانه ووريده وامعاؤه الغليظة والدقيقة!! تدرك ذلك الامم المتقدمة التي لا تستخسر ما تبذله في تطوير تعليمها واعداد خططها المبنية على الدراسات العلمية، فتنفق يدها الطولى في اطلاق مشاريع تنموية عملاقة ترسم مستقبل مخرجاتها التعليمية. ولعلي اذكر أحد تلك المشاريع التي تيسر لي الاطلاع عليه عن قرب حيث حضرت مؤتمراً في بريطانيا خلال هذا الفصل الدراسي وكان المؤتمر ضمن عدة انشطة يقوم بها المركز الوطني للقيادة المدرسية، وكان لي الاطلاع عن قرب على المركز والذي افتتحه رئيس وزراء بريطانيا وخصص له ميزانية 19 بليون جنيه استرليني أي ما يعادل 114 بليون ريال سعودي، تم تخصيصها في محاور ثلاثة: تدريب وتطوير مهارات وبرامج القيادة المدرسية، اجراء بحوث علمية حول التطوير المدرسي، تقنية الاتصال المدرسية والمعلوماتية. قد يبدو ذلك المبلغ وهمياً غير مصدق! بل هكذا بدا لي حتى راجعت الاوراق عدة مرات واطلعت على موقع المركز الالكتروني فتأكد لي صحة ذلكم الرقم. لماذا بدا وهمياً؟ لانني اعتدت ان هذا المبلغ تنفقه دول العالم الثالث على التعليم خلال ثلاثين سنة!! ويظنون انه مبلغ كاف ويأملون ان تكون ثمرته تعليماً ينافس ويتميز في جودته ومخرجاته التعليمية. والعجيب ان رئيس وزراء بريطانيا قد اشار في كلمة افتتاح المشروع ان ذلك المبلغ استثمار ولم يعبر عنه بأنه ميزانية صرف، بل قال بأن ابناءنا يستحقون الافضل فيجب ان نوفر لهم كل ما نستطيع. ثم تحدث عن اهمية التعليم فقال انه ليس هناك أسوأ على الطفل من ان نقدم له تعليماً رديئاً، واكد على تسميته «استثمار مقابل اصلاح وتطوير» وقال مبرراً ذلك بأننا نطمح بقوة نحو الافضل لأننا مؤهلون وقادرون وهكذا يجب ان نكون. هكذا كانت رؤيتهم للتعليم، فانعكست على جميع الجوانب المالية والادارية وغيرها. وهكذا حينما تكون لنا رؤية بعيدة المدى عن تعليمنا، رؤية منبثقة من اسس معتمدة على البحث العلمي وليست عبارة عن رؤى فردية وشعارات شخصية، رؤية تحددها المؤسسة التعليمية نبراساً لها ودليلاً وموجهاً، رؤية تحدد وسائل تحقيقها وتوفر لها الامكانات المادية والطاقات البشرية والجهود الادارية فتضمن بذلك عوامل النجاح لتحقيق الرؤية المستقبلية. وفي المقابل، حين تنعدم رؤيتنا للمستقبل، ونأخذ التعليم على انه وظيفة وان هدفه الاطمئنان ان «الامور زينة»، عندئذ فليس غريباً ان نقلل الانفاق في جميع جوانب التعليم ونستخسر ما ينفق على التعليم، بل قد تنقلب الغاية فيصبح تقليل الانفاق هو الهدف، وهنا يكون تقدمنا بقوة الى الوراء!! انها دعوة للانفاق بل الاستثمار في التعليم، مع توجيه وترشيد، فهدفنا ان نستثمر ما نملكه من امكانات مادية وطاقات بشرية بأقصى ما نستطيع في التعليم فالعوائد نافعة جداً، نافعة للمجتمع وللفرد على حد سواء. انها دعوة لأن نرى مجال التربية والتعليم من اولى اولوياتنا الثقافية والاكاديمية والاجتماعية، دعوة لأن نعطي مجال التربية والتعليم اولوية فوق المجالات الاخرى الصناعية والزراعية، فالتميز في مجال التربية والتعليم اساس التميز في المجالات الاخرى. ولنكن على ثقة تامة انه لن تنجح امة من الامم على المستوى الصناعي او الزراعي او غير ذلك من المستويات ما دام تعليمها يترنح بين ضعف وتواكل وتثبيط وتخاذل. وفي الختام، هي دعوة لتصحيح مفهومنا عن دور التعليم في استنهاض الهمم وسباق الحضارات، وبقدر ما نبذل في تعليمنا تكن ثمرة نتاجنا، فمن زرع حصد، ولن نجني من الشوك عنباً، فهلا اعطينا كل ذي حق حقه.