في اليابان حركة قومية ناشئة ترى أن البلاد لابد وأن تبادر إلى تعديل دستورها السلمي وتنمية قدراتها العسكرية على نحو قد يتضمن تصنيع الأسلحة النووية لإيجاد التوازن في مواجهة تهديدات مثل تلك التي تمثلها كوريا الشمالية. يُعقد مؤتمر الأممالمتحدة الخاص بمراقبة تطبيق معاهدة حظر الانتشار النووي كل خمس سنوات على مدار أربعة أسابيع فقط. وعلى الرغم من تباعد فترات انعقاده فإن الدول المشاركة فيه وعددها 188 دولة تحتاج إلى أسبوعين كاملين للاتفاق على جدول الأعمال. وإلى أن يتفق الحاضرون على توزيع المهام بين لجان الأعمال لابد من مرور أسبوع ثالث. وبذلك لا يبقى سوى أيام معدودة لمناقشة الموضوع الذي حضروا من أجله والمتمثل في كيفية تعزيز التزام الدول المعنية بتطبيق بنود المعاهدة. وغالباً لا تسفر هذه المناقشات بهذا الشأن عن نتائج تُذكر. وعلى الرغم من ذلك، تُعتبر معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية من أنجح معاهدات نزع التسلح كونها تضم جميع دول العالم تقريباً. فهي تضمن استخدام الطاقة الذرية للأغراض المدنية، لكنها تلزم القوى النووية التي اعترفت بامتلاكها للسلاح النووي بالحد منه وتمنع البلدان الأخرى من امتلاكه. ولأكثر من ثلاثة عقود كانت معاهدة منع الانتشار النووي بمثابة حجر الزاوية في النظام العالمي لمنع الانتشار. وهو مركز اكتسبته هذه المعاهدة من خلال الاعتراف المتنامي بالمعايير القانونية والقياسية التي أسستها. ولقد تزايد الالتزام بمعاهدة منع الانتشار بشكل مطّرد حتى وصلت إلى مرحلة تكاد تقترب من القبول العالمي. في المقابل، يرى البعض أن الانتشار النووي من شأنه أن يقلل من المخاطر بدل أن يفاقمها، ففي هذه الحالة لن تتجرأ أي دولة على العدوان. بيد أن هذه النظرية تفترض الحكمة التامة لدى الجميع، وهذا أمر يصعب تحققه في الواقع العملي ، فالمزيد من الانتشار قد يعني تعاظم احتمالات الاستخدام غير الحريص، وإضعاف القدرة على مواجهة الأزمات النووية، كما أنه يعني زيادة صعوبة وضع الضوابط وتقليص الدور الذي تلعبه الأسلحة النووية في صياغة السياسة العالمية. كذلك ، فإنه كلما زاد عدد الدول التي تمتلك الأسلحة النووية كلما تعاظمت فرص حصول التنظيمات المتطرفة عليها. وكانت معاهدة منع الانتشار محل مفاوضات في فترة الستينيات من القرن الماضي بعد أن أصبحت خمس دول (الولاياتالمتحدة،والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا والصين) تنتج الأسلحة النووية. في ذلك الوقت رفضت كل من الهند وباكستان الانضمام إلى المعاهدة، ومع الوقت تمكنت الدولتان من صناعة القنابل الذرية. ويقوم نظام معاهدة منع الانتشار على ثلاثة أعمدة هي: منع الانتشار النووي، ونزع السلاح النووي، والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.وتتصور المعاهدة عملية تشييد كل من هذه الأعمدة من خلال سلسلة من الخطوات المتماثلة من قِبَل الدول التي تمتلك أسلحة نووية، والدول التي لا تمتلك أسلحة نووية في ذات الوقت. بيد أنه لتقوية نظام منع الانتشار بحيث يصبح قادراً على مواجهة تحديات اليوم، فإن الأمر لن يتطلب أكثر من إتباع هذه الاستراتيجية. إن الأمور لم تكن على هذه الصورة منذ العام 1995، حين تقرر في المؤتمر الخاص بمراجعة المعاهدة وتمديد فترة العمل بها الى أن تكون معاهدة منع الانتشار سارية إلى ما لا نهاية. لكن المؤتمر الذي ضم الدول الخمس الأصلية ذات التسليح النووي (الولاياتالمتحدةوروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) علاوة على عدد كبير من الدول الأعضاء بالأممالمتحدة، لم يتوصل إلى إجماع حول «الإعلان الختامي».بيد أن المؤتمر تبنى ثلاثة قرارات أخرى تحت العناوين التالية: تعزيز عمليات الفحص والمراجعة التي تجرى طبقاً للمعاهدة، والمبادئ والأهداف لمنع الانتشار ونزع السلاح النووي، وقرار خاص بالشرق الأوسط. ولقد شكلت هذه القرارات حزمة واحدة يفترض أن يتم تنفيذها مجتمعة. وثمة قناعة متزايدة مفادها أنه يتعين على الدول التي تمتلك الأسلحة النووية أن تستمر في تقليص الدور الذي تلعبه هذه الأسلحة، وأن تمتنع عن وضع برامج جديدة من شأنها أن تزيد من احتمالات استخدامها. ويتعين على هذه الدول أن تحترم الشروط المعيارية التي تشكل الأساس لمعاهدة منع الانتشار. ولن يكون من الممكن تفسير التزام تلك الدول وفقاً للمادة السادسة،التي تقضي بتقليص ترسانات الأسلحة النووية لديها، بضرورة المسارعة إلى نزع السلاح ما لم يكن في ذلك دعم لاستقرار العالم. بيد أن الغرب يرى أن مثل هذه الظروف لم تسنح بعد ، وذلك بسبب لجوء الدول غير الديمقراطية إلى الخداع فيما يتصل بالتزاماتها القانونية. وترغب بعض الدول في تطوير أسلحة نووية صغيرة سهلة الاستعمال تم تصميمها بحيث تستخدم في أعمال عسكرية وقائية.أما الدول الكثيرة التي لا تمتلك السلاح النووي، وعلى الأخص تلك الدول في العالم النامي، فإنها تظل غارقة في الإحباط وهي تدرك أن التعاون النووي في الأغراض السلمية لم يتحقق بالكامل بعد. إن هذه التحديات التي تواجه نظام منع الانتشار لا تُعرِض مصداقية وفعالية وإمكانية تطبيق المعاهدة للخطر فحسب، بل إنها تلقي أيضاً بظلال قاتمة من الشك على مستقبل نزع السلاح النووي ذاته. ومن جهة أخرى, فإن معاهدة منع انتشار السلاح النووي قد ولدت حاملة ثغرة أساسية تتمثل في أنه حتى لو قبلت إحدى الدول عمليات تفتيش واسعة النطاق من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فمن حقها قانوناً أن تجمع اليورانيوم المخصب (أو البلوتونيوم المعالج) من أجل استخدامه في برنامج سلمي للطاقة النووية، ثم تعلن فجأة أن الظروف قد تغيرت وتنسحب من المعاهدة بعد أن أصبحت تمتلك القدرة على إنتاج الأسلحة النووية في مدة قصيرة. وفي منتصف السبعينيات خططت العديد من أطراف معاهدة منع الانتشار لاستيراد وتطوير مرافق تخصيب وإعادة معالجة. وبإدراك الخطر الذي يشكله هذا الأمر على نظام منع الانتشار، فقد سارعت دول متباينة التوجهات كالاتحاد السوفياتي وفرنسا وألمانيا واليابان إلى تكوين «مجموعة الموردين النوويين» التي قيدت عمليات تصدير مرافق التخصيب وإعادة المعالجة. ولقد أدى هذا إلى سد الثغرة في المعاهدة جزئياً دون أن يصلحها. واليوم يمكن لتلك الدول أن توحد جهودها لكي تعرض صفقة على دولة مثل إيران. وتتلخص تلك الصفقة في أن الدول التي ترغب في إنتاج الطاقة النووية وليس القنابل النووية ينبغي أن تحصل على ضمانات دولية بإمدادها بالوقود النووي وسبل التخلص من الوقود المستهلك. ويرى البعض أنه ينبغي على روسيا التي تساعد إيران في بناء مفاعلها النووي في بوشهر، أن تمنح طهران الضمان بإمدادها بوقود اليورانيوم منخفض التخصيب، ومساعدتها في إعادة معالجة وقود المفاعل المستهلك بإعادته إلى روسيا، وذلك حين يوافق الإيرانيون على التوقف عن التخصيب وإعادة المعالجة. وبعد ذلك من الممكن أن يتولى مجلس الأمن بالأممالمتحدة تفعيل ذلك الاتفاق. وترى إيران من جهتها أنها تمتلك الحق في إجراء عمليات التخصيب وفقاً للمادة الرابعة من معاهدة منع الانتشار، بيد أن الغرب يرى أن تلك المادة لابد وأن تقرأ في ضوء المواد الأخرى وفي ضوء لجوء إيران في الماضي إلى ما وصف «بالخداع» في مواجهة الهيئة الدولية للطاقة الذرية. ولقد أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش أن وجود سلاح نووي إيراني أمر غير مقبول. ولكن خيارات أميركا أحادية الجانب محدودة. ليس فقط لأن قوات الولاياتالمتحدة العسكرية مشغولة في العراق، بل لأن الأسلوب الذي دخلت به الولاياتالمتحدة إلى العراق الذي ثبت أن قدراته النووية أقل مما لدى إيران قد قوض فرص تجنيد الحلفاء للعمل على احتواء طموحات إيران النووية. أما كوريا الشمالية فقد انسحبت من معاهدة منع الانتشار بعد أن استخدمتها كستار للتمويه على برنامج الأسلحة النووية. إن الدوافع وراء إبراز كوريا الشمالية لورقة التهديد بالسلاح النووي واضحة جلية، كما أن التوقيت كان في صالحها تماماً: إجبار الولاياتالمتحدة على تقديم التنازلات بعد أن أصبح موقفها في العراق لا يسمح لها بالكثير من حرية المناورة، وتخفيف النبرة المتصاعدة في اليابان والتي تطالب بفرض عقوبات اقتصادية على بيونغ يانغ بسبب قضية اختطاف المواطنين اليابانيين. وعلى هذا، فبينما حمل إعلان كوريا الشمالية عن امتلاكها لقدرات نووية إدانة قوية لليابان والولاياتالمتحدة، إلا أنه لم يذكر الصين وروسيا وكوريا الجنوبية، وهي الأطراف التي كانت أكثر استرضاءً أثناء المحادثات السداسية الخاصة بالأزمة النووية الكورية الشمالية. ولقد تغير موقف إدارة بوش المعتدل نسبياً تجاه كوريا الشمالية منذ توقفت المحادثات السداسية في العام الماضي. وعلى ما يبدو فأن الولاياتالمتحدة تحاول تضييق الخناق الدبلوماسي على بيونغ يانغ من خلال اقتراحها بتحويل النقاش الدائر بشأن القضية النووية إلى مجلس الأمن الدولي. وفي سياق إقليمي ، جمعت اللجنة الاستشارية الأمنية اليابانية الأميركية المشتركة بين وزراء خارجية ودفاع البلدين في واشنطن في شباط فبراير الماضي من أجل مناقشة الأهداف الإستراتيجية المشتركة والمتعلقة بإعادة انتشار قوات الولاياتالمتحدة الأمامية. ويتضمن ذلك قواتها في اليابان، والتي ستركز على الاستجابة للتهديدات النووية والصواريخ الباليستية لدى كوريا الشمالية، علاوة على التهديدات الجديدة التي يفرضها الإرهاب الدولي وتراكم القوة العسكرية للصين. كما كانت الحكومة اليابانية تدرس أيضاً اتخاذ إجراءات فعالة رداً على كوريا الشمالية. فعلى المستوى العسكري، بادرت اليابان إلى تعديل قانونها بشأن قوات الدفاع الذاتي لتأسيس الإجراءات القانونية اللازمة لامتلاك صواريخ باليستية دفاعية، مع التركيز بقوة على الخطر الكوري الشمالي. ويأتي تعديل القانون لترسيخ اتجاه الموقف العسكري الياباني من خلال منح المزيد من السلطات لقادة قوات الدفاع الذاتي بحيث يصبح في إمكانهم المبادرة إلى اتخاذ تحركات دفاعية في مواجهة أي تهديد وشيك. وعلاوة على صواريخ نودونغ متوسطة المدى، عملت كوريا الشمالية على تحسين صواريخ سكود، فزادت مداها بحيث تصبح قادرة على الوصول إلى جزر اليابان الرئيسية. ويخشى المحللون اليابانيون أن تؤدي خطة الخفض الأميركي المعتزم للقوات من آسيا إلى تحويل البلاد إلى مركز قيادة متقدم لأميركا في المنطقة، وربما إلى ما هو أبعد من مجال معاهدة الأمن الثنائية مع الولاياتالمتحدة. وإحدى النتائج المترتبة على هذا أن أصبحت الصين تشعر بتوتر شديد تجاه أي توسع جديد في الشراكة العسكرية الأميركية اليابانية.لكن الانسحاب المعتزم للقوات الأميركية سيكون له أشد وأبلغ الأثر على كوريا الجنوبية. ففي حزيران يونيو من العام الماضي كشفت إدارة بوش عن خطتها لسحب حوالي 12500 من قواتها المتمركزة في كوريا الجنوبية، والتي يبلغ عددها 37000 جندياً، وذلك مع نهاية العام 2005. ويشمل هذا العدد 3600 جندي تابعين للواء الثاني من فرقة المشاة الثانية، والذين تقرر بالفعل إعادة انتشارهم في العراق. ويخشى أهل كوريا الجنوبية على نحو صادق أن تؤدي الخطة إلى إضعاف قوة الردع من خلال الرسالة التي ستبثها إلى كوريا الشمالية التي تطالب بالانسحاب العسكري للولايات المتحدة بينما ترفض التخلي عن طموحاتها النووية ومفاد هذه الرسالة أن العناد يعود عليها بالفائدة في النهاية. وفي الواقع، لا ينبغي أن ننسى أن كوريا الشمالية تمتلك جيشاً قوامه 1,1 مليون جندياً. بيد أن الولاياتالمتحدة تخطط في الوقت نفسه لتعزيز قوات كوريا الجنوبية من خلال تزويدها بمعدات متطورة تكنولوجياً تبلغ قيمتها 11 ملياراً من الدولارات على مدى السنوات الخمس القادمة. وتتصاعد في اليابان حركة قومية ناشئة ترى أن البلاد لابد وأن تبادر إلى تعديل دستورها السلمي وتنمية قدراتها العسكرية على نحو قد يتضمن تصنيع الأسلحة النووية لإيجاد التوازن في مواجهة تهديدات مثل تلك التي تمثلها كوريا الشمالية. ولقد أصبحت احتمالات قيام سباق تسلح بين الصين واليابان أكثر قوة. والحقيقة أن هيئة الدفاع اليابانية قد رسمت مؤخراً ثلاثة سيناريوهات لهجمة صينية ضد اليابان، وأعلنت عن تخطيطها لإعادة انتشار قواتها من الشمال (حيث كانت متمركزة هناك في الأساس للدفاع عن اليابان ضد الاتحاد السوفياتي السابق) إلى الجنوب في مواجهة الصين. وفي الصين نفسها أصبح المحللون المتشائمون يخشون من أن آسيا لم تعد تتسع لكل من الصين واليابان، أو ثاني أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم: «الغابة الواحدة لا تتسع لنمرين». وفي المقابل يرى المتفائلون أن الصين واليابان تستطيعان أن تتعاونا وأن تعملا كمحرك ثنائي للتنمية في آسيا. أما الخبير الياباني فينج زاوكوي فقد اتخذ منحى وسطاً، حيث يرى أن العلاقات الصينية اليابانية سوف تتسم على الدوام بالتعايش بين عنصري التعاون والصراع. وفي هذا العام أعلنت الصين عن زيادة مقدارها 12,6٪ في إنفاقها العسكري؛ ولقد شهد بورتر جوس مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بشأن تفاقم حالة انعدام التوازن العسكري في مضيق تايوان. ثم ناشد الرئيس بوش الأوروبيين ألا يرفعوا الحظر على مبيعات الأسلحة إلى الصين. وقد أعلن محللون، مثل جون ميرشيمر من جامعة شيكاغو، على نحو صريح أن ليس من الوارد أن تنهض الصين سلمياً، وتنبأ بأن الولاياتالمتحدة والصين سوف تنخرطان على الأرجح في سباق أمني حثيث في ظل احتمالات قوية بنشوب حرب بينهما. ويلفت المتفائلون الانتباه إلى سياسات الجيرة الطيبة التي انتهجتها الصين منذ تسعينيات القرن العشرين، والنزاعات الحدودية التي عملت على حلها، والدور المتعاظم الذي لعبته في المواقف الدولية، وإدراكها لفوائد اللجوء إلى الدبلوماسية. لكن المتشككين يردون على هذا بأن الصين في حالة انتظار حتى يصبح اقتصادها قادراً على توفير القاعدة اللازمة لفرض هيمنتها في المستقبل. [email protected]