عاشت الجزيرة العربية في العصور الأخيرة أو (عصور العامية) إن جاز لنا التعبير تحت وطأة الأمراض والأوبئة من الطاعون إلى الجدري إلى الكوليرا والملاريا والسل فكان ضحايا هذه الأمراض يعدون بالآلاف في فترة خلت من وجود الطبيب والدواء لدرجة أنهم يؤرخون بسنوات الأوبئة لأن لها ذكريات أليمة لا يمكن نسيانها ومن أمثلتها(سنة الجدري)، (سنة الصخونة)، (سنة الحصبة) وغير ذلك، في وقت كان الركنان الأساسيان لطب الصحراء: الكي بالنار واستعمال الحشائش والأعشاب، في ظل تلك الأوضاع الصحية المتردية في المنطقة تحركت الإرساليات الأجنبية التي كانت تبحث عن موطأ قدم في الجزيرة العربية لنشر الديانة المسيحية وسنتناول شذرات من تاريخ هذه الإرساليات معتمدين على ما كتبه الدكتور عبدالله ناصر السبيعي حولها ففي عام 1263ه/ 1847م تبنى اتحاد مدارس الأحد الأمريكية فكرة تقضي بضرورة البدء بنشاط تبشيري في جزيرة العرب باعتبارها «أكثر الأوطان قدسية وثباتاً على دينها من أي قطر على وجه الأرض باستثناء فلسطين» وقد تمخض عن تلك التوصية ميلاد الإرسالية الأمريكية العربية وقد سارعت الكنيسة الإصلاحية الهولندية الأمريكية وهي كنيسة بروتستانتية بتبني مهمة القيام بذلك النشاط، ومن المعلوم أن الخدمة الطبية إحدى وسائل التبشير، بل كانت هذه الخدمة تلعب الدور الأكبر بين أنشطتها، والحقيقة أن تقديم مثل هذه الخدمة جزء من الخلق المسيحي الذي يدعو لمساعدة الناس وشفائهم. وقد قال الدكتور/ بننجز Pennings في معرض إجابته على سؤال للباحث عن السبب الذي يدعو الإرسالية لاختيار هذه الوسيلة طريقاً للتبشير :»ومن السهل معرفة السبب بأن المسيح كان معلماً ومداوياً، وفي الواقع كان طبيباً، إن ما نفعله هو تأثر خطاه». إن المداواة في المسيحية نشاط ديني عميق الجذور تبدأ مع بداية معجزات السيد المسيح الذي شفى المرضى. لكن في الحقيقة أن المسيح لم يكن طبيباً أو مداويا بالمعنى الذي نألفه في المستشفيات. فهو لم يستخدم أي نوع من الدواء لشفاء الناس. إن ما فعله المسيح في هذا الميدان هو القيام بالمعجزات. إن الأولوية التي حظي بها هذا المدخل والأسلوب تعتمد على إشباع حاجات الأهالي الملحة إلى العلاج الطبي. ولم يكن مجتمع الخليج في ذلك الحين ينعم بالرعاية الطبية الحديثة والعلاج الوحيد المتوفر في تلك الأيام هو العلاج أو الطب الشعبي، أضف إلى ذلك أن العلاج الطبي هو أكثر الوسائل قربا إلى النفوس، فقد كان مدخلا وأسلوبا إنسانيا يحظى بتقدير الشعب العربي ويقف حائلا أمام ردود الفعل السلبية سواء كانت دوافعها دينية أم سياسية، لذلك فقد كان أفضل طريق لخلق جو اجتماعي ودي مع الناس. وقد ذكر ه. ستورم H.Storm أحد قادة الإرسالية بقوله: «لقد ثبت أن العمل الطبي هو مفتاح القلوب المغلقة ووسيلة لتوثيق عرى الصداقة واداة لتحطيم المعارضة». لقد كان المبشرون يؤكدون على هذا المدخل كوسيلة رئيسية للتبشير، وأسلوب لكسب قلوب الأهالي وخلق جمهور متعاطف معهم، والأهم من ذلك كله تهيئة الفرصة للتبشير بالإنجيل وقد ذهب صموئيل زويمر إلى القول «إن جميع العاملين في ميدان التبشير في الجزيرة العربية متفقون على أن الطبيب القدير والجراح الماهر يحمل جوازا يفتح الأبواب المقفلة، ويغزو القلوب مهما كانت عنيدة. إن المستشفيات في الجزيرة العربية هي مكان تلتقي فيه الرحمة بالخلق ويتعانق فيه الصلاح والسلام» إن للمدخل الطبي مزايا عدة أهمها الأثر النفسي الذي يتركه في المجتمع وبالإضافة إلى حاجة أهالي البلاد الماسة إليه فقد كانوا أيضاً ينظرون إلى الطبيب القدير نظرتهم إلى إنسان متفوق يستخدم احدث الوسائل الطبية التي كانت أرقى بكثير من الوسائل التي يملكها المعالجون المحليون. لذا فقد كان الأهالي يرغبون دائما الالتصاق به وطلب النصح والمشورة منه. ومن يكون على أية حال أحق بالثقة من مداو قدير! كما أن المدخل الطبي يجد قبولا لدى العربي الذي يحمل إعجابا كبيرا بالخدمة الطبية.