أن إلغاء الآخر أو العمل على نبذه أو الانتقاص من حقوقه الأساسية، لا يفضي إلى الوحدة والاستقرار. وإنما على العكس من ذلك تماماً. حيث ان غياب العلاقة الايجابية والسوية بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع، يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وزيادة وتيرة التوتر، وارتفاع منسوب الاحتقان. عديدة هي المشاكل والأزمات، التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر، إلا أن من أهم هذه المشاكل وأخطرها، والتي تلقي بظلها الثقيل على مجمل حركة المسلمين المعاصرة، وفي تقديرنا إنها ستحدد طبيعة المستقبل السياسي والحضاري الذي ينتظر المجال الإسلامي. هي مشكلة العنف وممارسة القهر والإكراه والقتل والإرهاب باسم الدين الإسلامي. حيث كثرت في الآونة الأخيرة، ولاعتبارات عديدة، تلك الأعمال والجرائم وسفك الدماء الذي يراق باسم الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ومقدساته. فأضحى العنف من عنف القول، الذي يحث على الكراهية والقهر والقتل، إلى عنف الفعل والممارسة، حيث الاغتيالات والجرائم الجماعية والتفجيرات وإراقة الدماء البرئية. من المشاهد المألوفة في العديد من بلداننا الإسلامية. وهذا بطبيعة الحال، ينذر بكوارث وخيمة على الصعد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية. لذلك تتأكد الحاجة اليوم إلى الأمور التالية: 1 - رفع الغطاء الديني والشرعي، عن تلك الأعمال الإرهابية والإجرامية التي تُمارس باسم الدين والدين بكل قيمه ومبادئه وتشريعاته بريء منها. فالإسلام دين الرأفة والمحبة والرحمة وصيانة حقوق الإنسان، فلا يعقل أن تمارس كل هذه الفظائع باسم الدين الذي يقدس الحق والعدل والحرية. لذلك من الأهمية بمكان اليوم، العمل على تعرية كل هذه الأعمال العنيفة التي تمارس باسم الإسلام، وفضحها ورفع الغطاء الديني عنها. 2 - الوقوف بحزم ضد ظاهرة التكفير والغلو في الدين. إذ أننا لا نبالغ حين القول: إن من أهم أسباب معاناتنا الراهنة، هو من جراء شيوع ظاهرة التكفير والغلو في الدين. وذلك لأن هذه بمتوالياتها العديدة، هي البيئة الخصبة لبروز ظاهرة العنف الديني وبث الحقد والكراهية بين المسلمين. فإطلاق حكم التكفير على أي شخص أو فئة، يقود إلى إهدار دمائها، واستحلال أموالها، وشحن النفوس ضدها وجوداً وحقوقاً. فلا يمكن اليوم أن ننهي ظاهرة العنف وبث الكراهية من مجتمعاتنا الإسلامية، بدون تفكيك ظاهرة الغلو والتكفير. وذلك لأن الغلو في الدين، يقود إلى التكفير، وهذا بدوره يؤدي إلى ممارسة الكراهية والقتل باسم الدين. لذلك نجد أن النصوص الإسلامية، تؤكد على ضرورة نبذ الغلو في الدين. لأن هذه الآفة الخطيرة، تجعل الإنسان المسلم يعيش التناقض في حياته كلها. وينقل التاريخ أن رجلاً اعترض على الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، عند توزيعه للغنائم قائلاً: «اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا تقتله؟ فقال: لا، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية». (رواه البخاري (3414) ومسلم (1064 - 148). وجاء في الحديث الشريف: «ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله» رواه الترمذي (2636). وذلك لأن التكفير يفضي إلى إسقاط حرمة ذلك الإنسان. فهو أي التكفير هي المقدمة النظرية لفعل القتل. من هنا لا وقف لظاهرة القتل والإرهاب والعنف، إلا بتفكيك ظاهرة التكفير والغلو الديني. فكل الإجراءات التي تستهدف محاربة الإرهاب والقضاء على ظاهرة العنف، لا تجدي نفعاً، إذا لم تفكك ظاهرة التعصب والتكفير والغلو الديني. وذلك لأن هذه الظاهرة ساهمت ولا زالت في إنتاج أفواج المتطرفين والإرهابيين. من هنا فإن الخطوة الأولى في مشروع مجابهة العنف والإرهاب، هي نقد وتفكيك ظاهرة التكفير والتعصب الديني والسياسي. 3 - إننا ومن أجل وأد ظاهرة العنف، واجتثاث جذور الإرهاب وإنهاء ثقافة الحقد والكراهية، بحاجة إلى بناء حياة اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة. قوامها قيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان. لأنه بدون هذه القيم والمبادئ، التي تحترم الإنسان بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قومه، سيبقى واقعنا يعاني من مظاهر وممارسات العنف والإرهاب. إن الرد الاستراتيجي على الثقافة التي تبث الحقد والكراهية، هو بناء ثقافة المحبة والتسامح. ولقد أبانت الكثير من التجارب، أن إنهاء ظاهرة العنف الديني، بحاجة إلى تضافر كل الجهود والعوامل، من أجل بناء واقع سياسي واجتماعي وثقافي جديد، ينبذ العنف بكل مستوياته، ويحترم الإنسان بكل خصوصياته، ويتواصل مع العصر والحضارة بكل مكاسبها ومنجزاتها. وهذه الكلمات، هي صرخة واعية ضد العنف ومحاولات بث الكراهية بين أبناء المجتمع والوطن الواحد. ودعوة لبناء علاقة ايجابية وحضارية بين مختلف التعبيرات العقدية والمذهبية والسياسية الموجودة في المجتمع والوطن على قاعدة المساواة والمواطنة والعدالة. فلتتكاتف كل الجهود لتطهير فضائنا الفكري والسياسي والاجتماعي من كل العناصر الثقافية والسلوكية، التي تبث الكراهية وتحرض على الحقد والعنف. لأن هذه هي بوابة الاستقرار وسبيل الأمن الوطني والاجتماعي. فالآخر في الرؤية الإسلامية، ليس مشروعاً للذبح والقتل والتدمير، بل هو موضوع للتواصل والحوار والمحبة والرحمة وتنمية الجوامع المشتركة. لهذا نجد أن النصوص القرآنية، تؤكد على مفاهيم الأخوة والألفة والرحمة والدفع بالتي هي أحسن إذ يقول تبارك وتعالى {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم} (فصلت: الآية 34). و«إن معاشرة الآخر بالحسنى أمر طبيعي، وليس فيها أي محذور شرعي، ولم ترد آية أو سنة صحيحة تصمم حياة المسلم على أساس القطيعة مع الآخر، وهناك جمع من الأنبياء الكرام، عقد القرآن الكريم بينهم وبين شعوبهم علاقة الأخوة الكريمة من خلال الخطاب النبوي الموجه، وذلك رغم انعدام الموالاة، ورغم الاختلاف الصارخ بالعقيدة والسلوك. إن موالاة الكافر المرفوضة تتمثل في تقبل فكره، والانسياق مع هذا الكفر تحت ضاغط غير موضوعي يدخل في نطاق الولاء المنهي عنه، كذلك الركون إلى الآخر، ومده بالقوة والأسرار فيما هو يحارب المؤمنين ويعمل على تصديع المجتمع المسلم، هذه موالاة مرفوضة، ولكن الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة، بمعنى المشاركة بالوطن والمصير، فهي مما أجازه الشرع، ولم ينه عنه كتاب الله» (غالب الشابندر، الآخر في القرآن، ص 134). فالاختلاف في العقائد أو الأفكار أو السياسات، ينبغي أن لا يصنع الحواجز التي تحول دون التواصل والحوار والاحترام المتبادل. إذ أن هذه المفاهيم والقيم، هي التي توسع من دائرة التوافق وهي التي تضبط حقائق الاختلاف، وهي التي ترسي معالم التعددية الصالحة، التي تثري الواقع والمجتمع في آن. فالآخر ليس شراً مطلقاً، بل هو أحد مكونات المجتمع والوطن، ودفع الأمور باتجاه شيطنة الآخر، لا يفضي إلا إلى المزيد من التشظي والتوتر. فالمطلوب ومن أجل صياغة علاقة حسنة وايجابية بين الذات والآخر، هو أن نمارس كذوات إنصاف حقيقي للآخر على الصعد كافة، كما نشجع الآخر وعبر وسائل ومبادرات مختلفة، لكي يعرف بنفسه بعيداً عن الأفكار المسبقة وحروب الشائعات والتشويه والأوراق الصفراء. ففسح المجال للآخر الديني أو المذهبي أو السياسي للتعريف بنفسه، سيساهم في ردم الكثير من الفجوات التي تحول دون التواصل وبناء علاقة سوية بين جميع المكونات والتعبيرات. كما أن الالتزام بمقتضيات الإنصاف سيوقف الكثير من الترهات، التي تسيء إلى الجميع وتدخلهم في أتون الصراعات والنزاعات التي تهدد الأمن والاستقرار بكل مستوياته وحقائقه. فالمغايرة في الأفكار والقناعات والمواقف، لا تشرع للنبذ والإقصاء والحرب. بل إلى ضرورة الإنصات المتبادل والحوار المستديم والتواصل الذي ينمي المشتركات ويضبط نزعات الصراع. ولا بد أن يدرك الجميع، ومن خلال تجارب الأمم والشعوب، أن إلغاء الآخر أو العمل على نبذه أو الانتقاص من حقوقه الأساسية، لا يفضي إلى الوحدة والاستقرار. وإنما على العكس من ذلك تماماً. حيث ان غياب العلاقة الايجابية والسوية بين مختلف مكونات وتعبيرات المجتمع، يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وزيادة وتيرة التوتر، وارتفاع منسوب الاحتقان. فلا وحدة حقيقية مع دحر الخصوصيات ومحاولة إفناء التنوعات بوسائل قسرية. كما أنه لا استقرار مستديم مع ثقافة الكراهية ومبادئ النبذ والإقصاء والتهميش. فالوحدة بكل مستوياتها، تحتاج إلى مشاركة جميع الأطراف والمكونات في بناء لبناتها الأساسية وحقائقها العميقة. كما أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي، يتطلب رؤية سياسية وثقافية واجتماعية جديدة، لا تمارس النبذ والإلغاء تجاه المختلفين والمغايرين، وتشيد وقائع التواصل والمحبة والاحترام بين مختلف المكونات والتعبيرات. ولا وجود على الصعيد الإنساني لمجتمع خالص أو مصفى أو صرف. كل المجتمعات الإنسانية تحتضن تنوعات وتعبيرات متعددة. وكل محاولات القهر والصهر، باءت بالفشل، وأسست لمعارك خاسرة للجميع. ولا خيار أمامنا إلا بناء علاقات ايجابية وحضارية بين مختلف مكوناتنا وتعبيراتنا وأطيافنا. لأن هذه العلاقة، هي التي تصون حقوق الجميع، وهي التي تعمق خيار الألفة والوحدة بين الجميع، وهي التي تحول دون تسرب أعدائنا لتأجيج الاختلافات والنزاعات. فهذه العلاقة بتأثيراتها ومفاعليها الايجابية المختلفة، هي التي تقوي جبهتنا الداخلية، وهي التي تمنحنا القدرة والقوة لمواجهة التحديات والمخططات الخارجية. فقوتنا في وحدتنا على قاعدة احترام تنوعنا، وقدرتنا في صيانة حقوق بعضنا البعض. وخلاصة القول: إننا بحاجة إلى رؤية جديدة في العلاقة مع الآخر في الدائرة الوطنية والإسلامية، لا تلغيه ولا تهمشه، ولا تنتقص من حقوقه، بل تحترمه وتشترك معه في صياغة علاقة ايجابية وحضارية قوامها التواصل على قاعدة المحبة، والنقد البناء والموضوعي على قاعدة الوحدة والشراكة والعدل والإنصاف.