دائماً الظواهر المجتمعية التي لا تعالج من جذورها وأسبابها الأساسية، تعود للظهور والبروز من جديد، وقد تكون بزخم وفعالية أكثر من السابق. وذلك لأن معالجة النتائج وملاحقة الظواهر الخارجية للمشكلة، لا تنهي الأسباب الحقيقية والجوهرية لنشوء المشكلة والأزمة. لذلك فإنها تتحين الفرصة للبروز من جديد. وظاهرة الإرهاب من الظواهر المرضية الخطيرة، التي لا يمكن القضاء عليها، إلا بالقضاء على أسبابها الحقيقية وجذورها الثقافية والفكرية التي تغذيها باستمرار بأسباب الوجود والحياة. فالمعالجات الأمنية ضرورية، إلا أنها ليست كافية لدحر ظاهرة الإرهاب من الفضاء الاجتماعي. وهي (المعالجات الأمنية) بحاجة بشكل دائم إلى جهود وطنية ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية، لمحاصرة هذه الظاهرة، وإنهاء جذورها الأساسية. وما نود في هذا المقال أن نوضحه، هو الجهد الثقافي والفكري الضروري لإنهاء ظاهرة الإرهاب من الفضاء الاجتماعي. إن العلاقة بين ظاهرة الإرهاب في فضائنا والثقافة، هي علاقة السبب بالنتيجة. بمعنى ان دراسة متأنية ودقيقة لهذه الظاهرة والبشر الذين ينتمون إليها، تجعلنا نعتقد أن السبب الحقيقي الذي دفع حفنة من الشباب للانتماء إلى هذه الظاهرة، والاشتراك في أعمال عنف وإرهاب ضد المجتمع ومنشآته الحيوية هو سبب ثقافي - ديني. بمعنى أن هؤلاء الشباب تربوا على نمط ثقافي معين، يستمد رؤاه الأساسية من فهم معين للدين، هو الذي دفعهم، وهو الذي شكل الحاضنة الأساسية لهؤلاء الشباب. وهذا الذي يجعلنا نفسر انتماء بعض الإرهابيين إلى عوائل ميسورة اقتصاديا، أو ذات الشاب يتحمل مسؤولية وظيفية ذات راتب أو مردود مجز. فالسبب الاقتصادي بالنسبة إلى هؤلاء، ليس سبباً مباشرا وجوهريا لانتمائهم لظاهرة العنف والإرهاب. وإنما هو السبب الثقافي - الديني، الذي دفعهم إلى ركوب موجات العنف والإرهاب، والمساهمة في تدمير مكاسب الوطن وقتل الأبرياء من المواطنين. ولا يمكننا بأية حال من الأحوال، إنهاء ظاهرة العنف والإرهاب، إلا بخوض معركة حقيقية وجادة وشجاعة على الصعيد الثقافي والفكري والمعرفي ضد ظاهرة الإرهاب وكل أسبابها المباشرة وغير المباشرة. وبدون خوض هذه المعركة المصيرية، لن نتمكن من القضاء على هذه الآفة الخطيرة، وسيتعرض وطننا ومجتمعنا بين الفينة والأخرى لعمل إرهابي، يروع الآمنين، ويقتل الأبرياء، ويدمر بعض المكتسبات والمنشآت. وفي تقديرنا أن التأخر عن دخول المعركة الثقافية والفكرية ضد الإرهاب، سيعرض وطننا للعديد من الهجمات الإرهابية. لذلك نحن بحاجة ماسة وبشكل سريع للانخراط في مشروع ثقافي وطني، يستهدف تعرية الظاهرة الإرهابية على هذا الصعيد، وتفكيك الحوامل والحواضن الثقافية والفكرية التي تغذي هذه الظاهرة، وتشكلها اجتماعيا وثقافيا. فالمسألة جد قصيرة بين الثقافة المتطرفة والمتشددة والتي تستسهل التكفير والمفاصلة الشعورية والعملية مع الآخرين وظاهرة العنف والإرهاب. ولا يمكن القضاء النوعي على ظاهرة العنف والإرهاب، في مجتمعنا، إلا بالقضاء على تلك الثقافة التي تسوغ القتل، وتبرر الإرهاب وتمده بغطاء شرعي. وعلى ضوء هذه الحقيقة نستطيع القول: إن استمرار المعالجة الأمنية بوحدها، لن ينهي هذه الظاهرة، بل قد يمدها ببعض مبررات الاستمرار. والحاجة ماسة اليوم لإسناد المعالجة الأمنية، بمعالجة ثقافية وفكرية حقيقية وجادة ولا تساوم على هذا الصعيد. وإذا أردنا أن نوضح ما نريد قوله على هذا الصعيد، فإننا نقول: إن التجربة المصيرية لم تتمكن من تحقيق إنجازات حقيقية وجوهرية في مشروع محاربة العنف والإرهاب إلا بعد أن تضافرت الجهود وتبلورت الإرادة الوطنية في اتجاه إسناد المعالجات الأمنية بمشروع ثقافي - تنويري يدحض حجج الإرهابيين ويرفع الغطاء الديني عنهم ويسحب البساط من تحت أرجلهم على هذا الصعيد. ولولا انخراط التجربة المصيرية في مشروع محاربة الإرهاب على الصعيد الثقافي والفكري، لاستمرت هذه الظاهرة في حصد أرواح الأبرياء وتدمير مكتسبات الشعب المصري. لذلك فإننا لا يمكن أن نحقق انتصارا كاسحا ضد ظاهرة العنف والإرهاب، إلا بخوض معركة ثقافية حقيقية ضد هذه الظاهرة وأسبابها الثقافية وعواملها الفكرية. وفي هذا السياق من الأهمية بمكان التأكيد على النقاط التالية: 1- إن ظاهرة العنف والإرهاب التي نواجهها في وطننا ومجتمعنا، بالإمكان توصيفها بأنها من الظواهر التي تنتمي إلى حقل وظاهرة (العنف الديني) حيث تستند هذه الظاهرة إلى تفسير ديني معين، وتعمل على استقطاب الشباب للانخراط في مشروع العنف والإرهاب بشعارات ومقولات دينية. لذلك فإننا لا يمكن مواجهة هذه الظاهرة على نحو فعال، إلا بإعادة صوغ المفاهيم الدينية السائدة، وغرس القيم والحقائق الدينية المضادة لظاهرة وسلوك العنف والإرهاب. كقيم الحوار والتسامح والاعتراف بالتعددية والآخر وصيانة حقوق الإنسان. فمواجهة أشكال العنف الديني بحاجة إلى جهد فكري وثقافي حقيقي، لتحرير المجال الديني من كل مقولات التطرف والغلو والتعصب، التي هي في المحصلة الأخيرة من حواضن العنف والإرهاب. فإنهاء مقولات التطرف والغلو والتعصب، من الفضاء الثقافي والديني، هو المقدمة الضرورية لإنهاء ظاهرة العنف والإرهاب من الفضاء الاجتماعي. ولا يكفي على هذا الصعيد من نفي صلة الإسلام بهذه الأعمال والممارسات، وإنما الأمر بحاجة إلى صياغة رؤية دينية جديدة، تمارس القطيعة التامة مع كل حقائق وأشكال الغلو والتعصب، وتعمل على إرساء معالم الحوار والتسامح والاعتراف بالآخر في الفضاء الاجتماعي. 2- إن القضاء على ظاهرة الإرهاب، يتطلب مشاركة جميع الفعاليات والتعبيرات الاجتماعية والوطنية في هذه المعركة. وذلك بفسح المجال لها لتعرية كل الجذور والجهات والحوامل، التي اشتركت بشكل أو بآخر في صنع هذه الآفة الخطيرة. فلا تنتهي الظاهرة لو تم القضاء فقط على ذلك الشاب الذي يحمل الرشاش، بينما الإنسان الذي حول هذا الشاب من شاب وديع إلى وحش مفترس يقتل بلا رحمة، ويفجر بلا قلب، حر طليق ويباشر دوره في خلق الشباب المتطرف والمتعصب. إن مواجهة الإرهاب تتطلب قرارات وسياسات شجاعة، تذهب إلى العوامل والأسباب التي خلقت هذه الظاهرة، وتعمل على تفكيكها وإنهاء خطرها. وإن أي تهاون على هذا الصعيد، سيكلف الوطن المزيد من القتل والدماء. ونحن هنا لا نستعدي السلطات على أحد، وإنما نقول إننا بحاجة إلى مكاشفة تامة وشجاعة كافية لإنهاء خطر هذه الآفة السامة. 3- إن القضاء على ظاهرة العنف والإرهاب في مجتمعنا، مرهون إلى حد بعيد في تقديرنا إلى مستوى عزمنا وإصرارنا على تفكيك البنية الفكرية والثقافية التي تنتج هذه الظاهرة، وتغذيها باستمرار. وليس خافيا على أحد، وجود بنية معرفية متكاملة، التي تغذي الإرهاب، وتحث على العنف ومواجهة الإرهاب تقتضي بشكل أساسي تفكيك البنية الثقافية التي تقف وراء هذه الظاهرة. وعملية التفكيك تتحرك في سياقين أساسيين: سياق النقد والتفكيك لكل الحواضن الثقافية التي تشرع للإرهاب وتغذي العنف وتسوغ القتل. وسياق بناء منظومة مفاهيمية - ثقافية جديدة، على أنقاض تلك الثقافة المتطرفة. وبناء منظومة ثقافية جديدة، تستلهم من قيم الإسلام وحضارته مفرداتها، بحاجة إلى سياسة وطنية متكاملة، بحيث تكون كل المؤسسات والهياكل والقرارات منسجمة ومضامين المنظومة المفاهيمية الجديدة. فلا نبذ حقيقي للتعصب، إلا بفسح المجال لكل التعبيرات لكي تعرف بنفسها، وتمارس دورها في صياغة الواقع الاجتماعي والوطني. ولا إنهاء للغلو إلا بغرس قيم الحوار والتسامح وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر وجودا ورأيا. ولا تقويض للتطرف والإرهاب، إلا بصيانة حقائق التعددية والحرية والمساواة. وجماع القول: إننا أحوج ما نكون اليوم، وفي إطار مواجهة خطر الإرهاب، إلى المشروع الثقافي الوطني الجديد، الذي يدشن مرحلة جديدة، نتجاوز من خلالها أنماط التفكير الآحادي وسياقات النبذ والإقصاء والاستبعاد، وبناء منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة، تنبذ العنف وتفكك بنيته، وتحارب الإرهاب في جذوره وحوامله ونتائجه. فمعركة الوطن القادمة، هي معركة الثقافة والفكر ضد الإرهاب في كل مراحله وأطواره.