سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مغامرات عاطفية في الصحراء السيل يا سدرة الغرمول يسقيك.. من مزنة هلّت الما عقربيّه أزورهم وسواد الليل يشفع لي.. وأنثني وبياض الصبح يغري بي مقاربات بين الشعبي والفصيح
المغامرات العاطفية موجودة في كل زمان ومكان، وخاصة لدى العشاق، لأنّ العشق يحدهم على ركوب المخاطر، ويحدوهم إلى المغامرات رغماً عنهم، فهو يسري في دمائهم سريان التيار الكهربائي في الآلات حتى يجعلها تتحرك وتسير وتطير رغم أنها من صُمّ الحديد.. وفي سامرية جميلة غناها (محمد عبده) يروي لنا شاعر شعبي مغامرة عاطفية قام بها في الصحراء، وفي الليل، بل هي ليست مغامرة واحدة، وإنما هي عدة مغامرات كاد يهلك فيها وتلدغه الداب بأنيابها السامة.. وقد ارتبطت مغامرات هذا الشاعر المبدع بسدرة كبيرة على مرتفع من الأرض (غرمول) أي (حزم) فظل يذكر تلك السدرة بالخير، ويدعو لها بالسقيا، ويذكر لياليه فيها بوجدٍ وحنين «السيل يا سدرة الغرمول يسقيك من مزْنة هلّت الما عقربيّه يا طول ما جيت ساري في حراويك عجل واخاف القمر يظهر عليِّه» ونحس بحرارة العاطفة وصدق المغامرة في ثنايا الشعر.. فهو يدعو من قلبه للسدرة الحبيبة بالمطر أغلى ما لدى العرب، وبالمطر المتواصل لتظل السدرة خضراء ندية حيّة تذكره بمغامراته ويرى فيها - كلما رآها - مسرح حبه فتنفض ذكرياته بالحياة: السيل يا سدرة الغرمول يسقيكْ من مزنةٍ هلّت الما عقربيِّه يا طول ما جيت ساري في حراويك عجلٍ واخاف القمر يظهر عليِّه نطّيت انا الداب وانيابه مشاويك جوالله وقاني من اسباب المنيِّه يا رِجْل لو هو مصيبك وين اداويك؟ ودواك يمّ الحسا صعبٍ عليِّه هذه الأبيات المبدعة اختلف الرواة في قائلها، فقد نسبت لعبدالعزيز بن ظافر الدوسري، ولعلي بن عالي الوقداني، وبعضهم نسبها لسرور الأطرش، وقيل إنها لشاعر من مطير.. كما نسبت لمحمد العوَّاد من الزلفي.. والذي يهم حقا هو قوة العاطفة في هذه السامرية الجميلة، والإحساس بشدة المغامرة، وقدرة الشاعر على تصوير الحركة بشكل مستمر (يا طول ما جيت ساري في حراويك).. أي حولك.. و(يا طول..) تدل على تكرار الحركة والمغامرة و(حراويك..) توحي بالارتباط بالسدرة (نطّيت أنا الداب وأنيابه مشاويك، والله وقاني من أسباب المنيه) هنا تصوير رائع لجزء من المغامرة وكأنه (تصوير سينمائي) وأخيراً: (يا رجل لو هو مصيبك وين اداويك ودواك يمّ الحسا صعب عليِّه) إذن كانت المغامرات في زمن صعب كله، فللصحراء قسوتها ولرجالها غيرتهم وشدتهم، ولمصابها قلة الحية وانعدام المداوي، حتى إن الحسا - التي يوجد فيها بعض دواء - تعتبر مسافة شاسعة على الشاعر الذي لا يبعد عنها إلا مئات الأميال تقطعها السيارة في ساعة أو ساعتين.. وبقدر إحساسنا بصدق مغامرة الشاعر الشعبي من خلال توهج لهجة الصدق في شعره وتعبيره، نحس أن شاعر العربية الكبير أبا الطيب المتنبي غير صادق في المغامرة التي صورها لنا بموهبته العظيمة لا بمغامرته الفعلية.. وذلك في أبياته المشهورة: (مَنِ الجآذر في زيِّ الأعاريب حمر الحلى والمطايا والجلابيب إن كنت تسأل شكا في معارفها فمن بلاك بتسهيد وتعذيب سوائر ربما سارت هوادجها منيعة بين مطعون ومضروب ما أوجه الحضَرِ المستحسنات به كأوجه البدويات الرعابيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفنا بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا برزن من الحمَّام مائلة أوراكهن صقيلات العراقيب ومن هوى كلِّ من ليست مموهة تركتُ لون مشيبي غير مخضوب كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةً أدهى وقد رقدوا من زورة الديب أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي) آخر بيتين لا أشك أنهما من نسج الخيال، فلو حاول لتم تمزيقه إرباً.. ليس المتنبي من يفعل ذلك ولا الأعراب من يتساهلون في هذه الأمور، لكنها صناعة الشعر التي جعلت البلاغيين يرقصون طرباً على كثرة المقابلات في البيت الأخير.. إن المغامرات العاطفية كلها مرفوضة خلقاً وديناً ومن كل النواحي، ولكنها جزء من أشعار العشاق فيها الصادق وأكثرهم شعراء يقولون ما لا يفعلون.