في الوقت الذي نجد فيه انحساراً للماضوية المغالية التي تدعو الإنسان العربي إلى البقاء في الماضي العربي وكأن فتح الأندلس تم بالأمس نجد الأعين مغمضة عن اختراقات تقوم بها إسرائيل ضد هويات عربية عدة ليست الهوية اللبنانية إلا إحداها. بل كأن الطمع الإسرائيلي لم يذقه إلا لبنان وكأنها سياسة ليست موجهة ضد لبنان كله بينما سياسة القضم الإسرائيلي لم تمارس إلا على حدود لبنان الجنوبي. وإذا كانت العروبة قد أخذت مكانها كمحفز نهضوي لشعوبنا فلأن الشباب العربي وحده فيها العزيمة النهضوية لبناء مستقبل له ولأمته مؤسس على فكرة المستقبلية القادرة وحدها على بناء أمة مدركة ان لا مكان كريماً للأمة العربية إلا بوعيها على التنافسية كقاعدة وطيدة لأمة عربية متجددة لائقة بالماضي العربي المجيد. بين السماحة في الخطاب المعتمد عند المسلم اللبناني والمحبة في الكلمة المغروسة في التراث المسيحي قيمتان موصى بهما سماوياً في عالم مذعور ضد احتمالات الحروب الداخلية القابلة للاشتعال الممكن وان كانت معروفة الحجم غالباً. ليس صحيحاً ما تنشره مدرسة الاستشراق الغربية ان المحبة بين البشر مفهوم مسيحي غريب عن القيم التي يبشر بها الإسلام، وهذا هو المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون يقول في القرن التاسع عشر عبارته الشهيرة: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب مشيداً بسلوكية العرب المسلمين في فتح الأندلس. صحيح قول بعض المستشرقين ان هناك في التراث الإسلامي من قال: إن المسلم القوي خير من المسلم الضعيف، ولكن هذا لا يعني أن الإسلام في قيمه هو دعوة مشابهة شبيهة للفاشية والنازية اللتين دعا اليهما هتلر الالماني وموسوليني الإيطالي في القرن العشرين، بل بالعكس فإن الإسلام في آسيا وافريقيا اللتين كانتا وظلتا حتى أيامنا هذه ناشرتين قيم الدفاع عن الحقوق في القارات والأوطان المغزوة من الاستعمار الغربي. وما الجهاد إلا دفاع صاحب الحق عن حقه والصمود أمام القوي الطامع بما عند الشعوب الآسيوية والافريقية من ثروات وحقوق. لقد أعطى الاسلام مفهوماً جديداً لكلمة غزو إذ أصبح معناها الهداية ونشر القيم العربية الإسلامية وليس الاستبداد والغطرسة وعندما قال الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) إن المسلم القوي خير من المسلم الضعيف إنما كان يلفت الى قوة الحق لا حق القوة في معاداة الحقوق الفردية والجماعات والإنسانية. لقد جاءت الأديان لنصرة الحقوق حيثما كانت فلا وألف لا لأي إذعان لجبروت معادٍ للقيم والحقوق. بين السماحة في المصطلح اللغوي الإسلامي والمحبة في المصطلح المسيحي تقوم أرضية مشتركة للمسلم والمسيحي في الوطن اللبناني الواحد وإذا كان لبنان قد نجح في الحصول على استقلاله والحرب العالمية الثانية لم تنتهِ بعد فبسبب عقلانية قياداته وتماسك مكوناته، وأخذه البطولي بالحكمة الجهادية القائلة: اطلبوا الموت لنوهب لكم الحياة. وقد جاء القرن مصدقاً ما قبله من كتب سماوية، وما محمد (عليه الصلاة والسلام) إلا خاتم النبيين وما العروبة إلا دعوة الى احتضان الأفراد والجماعات والأديان الموجودة في هذه البقعة العربية من العالم التي أعزها الله بأن جعلها داراً للأديان والدعوات السماوية كلها وإذا كانت اليهودية قد وقعت في فخ الصهينة مغلقة الباب في وجه اليهودية العربية ومسيئة إليها ومتسببة لها العزلة عن الإسلام والمسيحية العربية، وما كان أغنى اليهودية كدين سماوي شرقي بالأصل عن التصهين وبالتالي الخروج نهائياً من أسرة الأديان السماوية الذي كان يهدد العالم فخورين بل مستفيدين من الانتساب إليها. صحيح انهم قلة اليهود غير المتصهينين ولكنهم لا يزالون موجودين، ومنهم المعادي لخط التعاون مع الاستعمار الغربي، بل غير المقتنع بمشروع تهويد فلسطين بل ان منهم من يذكر بحلف كان في يوم من الأندلس بين اليهود والعرب ولكن بالمقابل هنا أيضاً من يرى أن اليهودية مستفيدة من صيغة التحالف بين الصهيونية والاستعمار الغربي القائمة الآن والمرشحة للدوام، والأذى كل الأذى آتٍ من جهات في الولاياتالمتحدة تؤمن بهذا الحلف وتعمل على تقويته ولعل الانغلو ساكسونية القوية في أميركا الشمالية وغيرها هي السند الأقوى للمشروع الصهيوني في فلسطين العربية والمؤلم ان العالمين الإسلامي والعربي غير متابعين بما يكفي للقوة المتناسية لأخطر عدو للعرب والمسلمين والمسيحية العربية وهو حلف الاستعمار والصهيونية. ولا شك في ان هناك عرباً فلسطينيين وغير فلسطينيين نبهوا لهذا الخطر النامي بدراسات مقنعة ومعمقة ولكن مع ذلك فليس هناك بعد فهم عربي كافٍ لما يعنيه حلف الصهيونية والاستعمار الذي يحتاج إلى دراسة أعمق له من النخب والطلائع العربية بل من كل العقول والضمائر الحية الواعية على أن فلسطين المسلمة والمسيحية كانت ولا تزال الخاصرة الرخوة للجسد العربي. إن النقد الذاتي الذي طالبت به الأمة العربية نفسها أوصاها بالفطنة إلى ظواهر كثيرة كالطائفية والقبلية والانغلاق على الذات والماضوية ولكن نادراً ما طالب نفسه بالموضوعية وخصوصاً المستقبلية المتسائلة عن الغد كيف سيكون بل كيف يصح أن يكون، ذلك ان متطلبات المستقبل وكيفية ضمانها هما الأولى بالاهتمام. ولو تعمقنا في درس تفوق الإنسان الغربي على الشرقي لوجدناها في روح صورة الغد عنده وحرصه على نوعية هذا الغد واهتمامه بمتطلباته وعمله على توفيرها منذ اليوم. ذلك ان المستقبلية عارفة الطريق إلى تحقيق ذاتها هي سمة الإنسان المتطور، إذ لن يكون المستقبل إلا إذا عشت متطلباته وبدأت تؤمنها منذ الآن. إن الفتى من قال ها آنذا ليس الفتى من قال كان أبي. هكذا هي المستقبلية شاغلة الإنسان الحديث عائش حاضره والناظر الى مستقبله، وحاجات هذا المستقبل. إن ما صنع أميركا الشمالية أقوى دولة في عالمنا الحاضر هو الحلم الأميركي ذلك الحلم الذي وحده بين الأحلام صنع الحيوية الخاصة للولايات المتحدة التي جعلتها بمثابة القاطرة في سكة حديد السير العالمي نحو التقدم. لو سألت أي وافد إلى الولايات أين أنت ذاهب لأجاب: أنا ذاهب إلى الحلم الأميركي. أكثر فأكثر تأخذ المستقبلية مكان اختها العصامية في مسيرة الإنسانية. إن الكرامة أن تقول ها آنذا ليس الكرامة أن تقول كان أبي. وإذا كانت العروبة قد أخذت مكانها كمحفز نهضوي لشعوبنا فلأن الشباب العربي وحده فيها العزيمة النهضوية لبناء مستقبل له ولأمته مؤسس على فكرة المستقبلية القادرة وحدها على بناء أمة مدركة ان لا مكان كريماً للأمة العربية إلا بوعيها على التنافسية كقاعدة وطيدة لأمة عربية متجددة لائقة بالماضي العربي المجيد. لقد لعب العرب بدءاً برسالة محمد (عليه الصلاة والسلام) دوراً كبيراً في بناء عالم يكونون فيه بالاسلام العربي طليعة إنسانية مستنيرة ومتجددة باستمرار. أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ذلك هو الشعار الذي رفعته بلاد الشام بصورة خاصة مرشحة نفسها لدور تشاركها فيه أقطار الأمة العربية كلها. فأين نحن الأمة كعرب مسلمين وغير مسلمين في مسيرة العالم وفي ما يحدث هذه الأثناء في بلاد الشام. رحم الله ذلك الشاعر العربي الذي قال: قل لذاك النسر في معقله واحد نحن إذا الشام تضام.