بين حامد دمنهوري (1340 - 1385ه) وغازي القصيبي (وُلد عام 1359ه) مشابه جمَّة، قد لا تبدو للعيان من الوهلة الأولى، ولكنها، إن أمعنا النظر في جوهر حياتهما العلمية والأدبية، تؤول إلى تجربة فريدة لكليهما، حتى إن حال الفارق في السن بين أن نعقد تلك الموازنة. فكلا الرجلين: دمنهوري والقصيبي تلقى تعليمه الجامعي في القاهرة، الأول في الستينيات الهجرية من القرن الهجري المنصرم (الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين)، والثاني في السبعينيات الهجرية (الخمسينيات الميلادية) - أسوة بكوكبة كبيرة من أبناء المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية الذين وجدوا في الجامعات المصرية الفرصة السانحة لتلقي التعليم، ووجدوا في القاهرة متنفساً بحجم الدنيا خارج بلدانهم التي كانت، في تلك المدة، تتهجَّى معالم طريقها إلى النهضة والمدنية. لكن التعليم في الجامعات المصرية تهيأ لكوكبة كبيرة من الشبان، ولا ينهض دليلٌ على الشبه في حياتهما، وإن كان يقوِّي تلك العلاقة التي سأقيم عليها الدلالة والبرهان، والتي تشتد بياناً في تحدر كليهما من الشعر إلى الرواية، وفي تعلق تجربتهما الروائيتين: «ثمن التضحية» لحامد دمنهوري، و«شقة الحرية» لغازي القصيبي، ب «القاهرة»، مكاناً روائياً، وبطلاب البعثات التعليمية، شخصوصاً سردية. وقد يبدو غريباً أن نُلْمح إلى تجربة حامد دمنهوري الشعرية. فبينما ذاع شأن غازي القصيبي، شاعراً رومنسياً، عقوداً طويلة، منذ أن أصدر ديوانه الأول «أشعار من جزائر اللؤلؤ: 1380ه/1960م»، وذاع صيته في المحافل الأدبية، وانطوت سيرته الشعرية على جملة من الدواوين التي حظيت باهتمام نقدي ومتابعة جماهيرية كبيرة - لم يُعْرَفْ عن حامد دمنهوري إلا كونه روائياً بارزاً في مسيرة الرواية في المملكة، وأصدر روايتيه المهمتين «ثمن التضحية: 1378ه/1959م»، و«مرَّت الأيام: 1383ه/1963م»، ثم لم يمهله القدر ليكمل مسيرته الأدبية، وإن كانت تانك الروايتان قد حققتا مكانة أدبية طيبة في الذائقة الأدبية، وعدَّها بعض النقاد حداً فاصلاً في مسيرة الرواية في المملكة، بل عُدَّ دمنهوري محمد حسين هيكل الرواية في المملكة! بدأ حامد دمنهوري حياته الأدبية شاعراً رومنسياً ذا شأن، أذاع قصائده في الصحافة الأدبية، في تلك المدة، ونوه به بعض النقاد، ولا سيما عبدالله عبدالجبار في كتابه «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية: 1379ه/1959م»، وجمع عبدالسلام الساسي طرفاً من شعره في كتابيه «شعراء الحجاز في العصر الحديث: 1370ه»، و«الموسوعة الأدبية: 1395ه/1975م»، ولكن حامد دمنهوري دشَّن اسمه بصفته روائياً لا شاعراً وعبَّر بتحوله عن الشعر إلى الرواية عن بداية وعي جديد بالأجناس الأدبية، بعد مدة من الشد والجذب، عانت فيها الرواية في المملكة مخاضاً صعباً، منذ انطلاقتها المتواضعة في «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري (1349ه/1930م)، و«الانتقام الطبعي» لمحمد نور جوهري (1354ه/1934م)، ثم صحوتها المؤقتة في «فكرة» لأحمد السباعي (1368ه/1948م)، و«البعث» لمحمد علي مغربي (1368ه/1948م)، ليدخل بها دمنهوري عهداً جديداً نستطيع أن نصفه، ونحن مطمئنون، بأنه عهد الروائي المحترف. ولا يقف شأن التشابه في مسيرة كل من حامد دمنهوري وغازي القصيبي عند هذا القدر، ولكن جانباً من هذا التشابه يبرز في اتخاذ «ثمن التضحية» و«شقة الحرية» من حياة طلاب البعثات التعليمية، في المملكة والبحرين، ذريعة للمتخيل الروائي، وإن كانت «ثمن التضحية» محايثة للتجربة التاريخية «الحقيقية» لطلبة البعثات السعودية في القاهرة، لصدورها في تلك المدة التي نشط فيها مجموعة من الطلاب السعوديين للدراسة في مصر، في حين يفصل ما يربو على أربع وثلاثين سنة بين التجربة التاريخية لغازي القصيبي وطلبة البعثات التعليمية البحرينيين وإصدار روايته «شقة الحرية»، وإن كان كلا العالمين الروائيين لدمنهوري والقصيبي يفترقان في الرؤية والشكل، ف «ثمن التضحية» لا تخفي سمتها التربوي والأخلاقي الذي يطغى على بطلها «أحمد»، أما «شقة الحرية» فتقشع عن أبطالها أقنعة «الحياء»، بل إنها تمعن في دمجهم في عوالم القاهرة ومساربها في السياسة والدين والجنس، وبينما يعود «أحمد» في «ثمن التضحية» إلى بلاده هادئاً مطمئناً، إلا من لواعج الحب الذي ضحَّى به في القاهرة، يغادر «فؤاد» في «شقة الحرية» القاهرة إلى أمريكا لاستكمال دراسته العليا، وقد تقلب في حيوات مختلفة من التدين ونقيضه، والإيمان بالعروبة والكفر بها، وحب عبدالناصر وكرهه، وكأن «شقة الحرية» - في الزمن الفاصل بين السرد والحكي - أنموذج للتحولات التي نهبت الثقافة العربية، يميناً ويساراً ووسطاً، وفي صعودها وهبوطها وترجحها بين التيارات المتصالحة والمتحاربة. ومع كل تلك المشابه التي تسوِّغ عقد موازنة بين هذه الرواية وتلك، فإن جانباً آخر يعمِّق - حتى لو كان خفياً - مساحة الالتقاء بين «ثمن التضحية» و«شقة الحرية»، نهضت به رواية القصيبي عنواناً لها، ومدخلاً قرائياً إليه، حين اتخذت من «الشقة» مجالاً سردياً، وكأن عالم الرواية لن يتحدد إلا في ذلك الحيز من المكان «الشقة» الذي تسلط على شخصياتها، بل تسلط على القارئ المفترض لها، وهو ما لم يظهر في «ثمن التضحية» هذا العنوان الأكثر انشداداً إلى الأفق الرومنسي، والأمسّ رحماً بقيم الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها بطل الرواية، ولكنها تتخذ، وبصورة لافتة للنظر، من «الشقة» مسرحاً لجوانب كثيرة منها. ولما كان ذلك كذلك، فإن «الشقة» تنهض عاملاً مشتركاً بين الروائيتين، وتؤلف مجالاً ممكناً لإجراء موازنة بينهما، وتتبع التفاصيل الصغيرة ل «شقة» دمنهوري، و«شقة» القصيبي، مع ما تنطوي عليه هذه الموازنة من تلمس أثر التحولات الفكرية التي طرأت على الرواية في المملكة العربية السعودية، وهي تأخذ طريقها بين السكينة والصخب، والاطمئنان إلى قيم المجتمع والخروج عليها، والتلفح بها أنست إليه الأخلاق الاجتماعية والثورة على كل ذلك، والإشفاق من الكتابة الروائية والولع والافتتان بها. وبمولد «الشقة» انتقلت الحياة العربية إلى طور جديد في العمران الهندسي والاجتماعي، تبدلت فيها طبيعة تلك الحياة غير الذي كانت عليه في سابق عهدها، وكان الشكل الأولي لها، الذي عُرف في مصر وبلاد الشام، معبراً عن تغير عالم المدينة العربية التقليدية، تلك المدينة المنقسمة على تجمعات اجتماعية، وحرفية ألفت صورة المدينة القديمة، التي يحتل فيها «البيت الكبير» - بيت العائلة - موقعاً متميزاً في خريطتها العمرانية والاجتماعية، ويحتل الشكل «الأبوي» مكاناً مهيمناً تستجيب له النويات الاجتماعية التقليدية المشدودة إلى شكل «الأسرة الممتدة»، وعلاقات الإنتاج المادية، وسوق العمل، وما يتمخض عن ذلك من فائض القيمة الاقتصادي، وفائض القيمة الرمزي الذي يسم المجتمع التقليدي بميسمه ويحد من صور الخروج على قبضة «الأسرة الممتدة»، اجتماعياً، و«البيت الكبير» عمرانياً. وترجع البدايات الأولى ل «الشقة»، في المدينة العربية الحديثة، إلى العهد الاستعماري الذي أحدث أحياءه الجديدة التي تشبه الأحياء الأوروبية، وفي هيئة أمكنة مغلقة، تفصل ما بين المدينة القديمة والمدينةالجديدة، ويمثل الانتقال إليها انتقالاً من مجال اجتماعي وقيمي إلى مجال اجتماعي وقيمي آخر، ويعمق الفجوة - اجتماعياً وطبقياً - بين المدينة الحديثة وسكانها، والمدينة القديمة وسكانها، وكان للعامل الاقتصادي أثره في نمو ظاهرة «الشقق» في المدينة العربية. ويذكر شاكر النابلسي أنه «كان لظهورها أول ما ظهرت في مصر عوامل اقتصادية واجتماعية، كان على رأسها ارتفاع أسعار الأراضي، وزيادة عدد السكان، والانشطار الذي تم في العائلة العربية، بحيث انقسمت العائلة الكبيرة الواحدة التي كانت تسكن الدار أو البيت الكبير إلى عدة عائلات. وقرر كل ولد متزوج من أولاد العائلة أن يرحل عن (البيت الكبير) ويسكن وحده، حتى يوفر لنفسه ولعائلته الجديدة الحرية الاجتماعية والفكرية، التي ربما كان محروماً منها أثناء سُكناه مع والديه واخوانه الآخرين في (البيت الكبير). فنشأ ما يُسَمَّى بالشقق». (جماليات المكان في الرواية العربية، ص 147 - 148). وبينما ظلت «الحارات القديمة» وفية للنمط العمراني والاجتماعي للمدينة القديمة، حيث يحتل المسجد الجامع مركزها، وإلى جانب منه تقع السوق وتتوزع المتاجر، وفي الطرف الآخر تقع دار الوالي، أو شيخ الحارة، والشرطة - كانت «الأحياء الحديثة» أشد مساساً بصورة المدن الحديثة في أوروبا، حيث تتناثر البنايات العالية، والمتاجر الحديثة والمصارف، وتُشَقّ الطرق الفسيحة التي يذرعها الأعيان والموظفون الحكوميون، وكانت السكنى في هذه الأحياء الحديثة تعبيراً عن التمايز ما بين عالمين اجتماعيين وقيميّين هما عالم المدينة الحديثة وعالم المدينة القديمة. وكما عبّرت «الشُّقُّة» عن المدينة الحديثة، عبرت، كذلك، عن مولد الطبقة الحديثة من الموظفين والمتعلمين تعليماً حديثاً، وكان السكن في «الشقة» إيذاناً بالخروج على قبضة «الأب»، وسلطة الأسرة الممتدة، وبداية حقبة خلخلت العلائق الاجتماعية والأسرية القديمة، والأهم تعبيرها عن معنى المدينة الحديثة، حين تتجاور البنايات الحديثة المتألقة من طوابق مختلفة، تتوزع على «شقق»، وينتمي قاطنوها إلى ما منابت وأصول اجتماعية ودينية ومذهبية مختلفة، وتستقل فيها كل أسرة عن الأخرى، في وضع يعبِّر عن مولد الحريات الشخصية التي لم تكن مكفولة في الأحياء القديمة. أما الجزيرة العربية، فقد مكثت حيناً من الدهر مشدودة إلى المجال العمراني والاجتماعي التقليدي، وظلت المدينة العربية فيها وفية لذلك المجال، وضربت «الأسرة الممتدة» في عمق التجربة الاجتماعية، ولم تستطع الأحداث السياسية التي جدت على الدولة العثمانية، ولا سيما «التنظيمات» أن تحدث أثراً واضحاً في المدينة العربية، وكانت التحولات تعبيراً عن رغبة السلطة العثمانية في خدمة أغراضها، فكان ما كان من الإصلاحات التي تمت في الحجاز واليمن كإنشاء المطبعة الميرية، والصحف العثمانية، والمجالس البلدية، غير أن العلائق الاجتماعية ظلت، هنا وهناك، مشدودة إلى الفضاء الاجتماعي التقليدي للمدينة العربية. وحين ذَرَّت في الأفق شمس الدولة الوطنية الحديثة في الجزيرة العربية كانت بداية التغيير، فالرموز الجديدة للسلطة ألقت بظلالها على شكل «الدولة»: من جيش نظامي، وقوة شرطة، وسك للعملة، وإرسال للبعثات التعليمية. أما المجتمع القديم فآذنت ملامحه بالتلاشي، فالأجيال الجديدة تحولت عمّا يمت إلى ما كان عليه الآباء، فبدل الاختلاف إلى «الكتاتيب» اختلفوا إلى «المدارس» الحديثة. وبدل امتهان حرفة الأب والجد، انضووا تحت مظلة الدولة، موظفين في دواوينها وإدارتها الجديدة، ولم يكن ذلك في أعماقه إلا تحولاً، رمزياً عن قبضة «الأسرة الكبيرة»، والتنظيمات الاجتماعية القديمة، والإيمان «الرمزي» بمفهومي «الوطن»، و«الدولة».