إذا كانت العنقاء - حسب الأسطورة - تتوالد من رمادها فإن اليمين الروسي يتماوت في ولادته الجدية.. ولم يعد سرا أن جميع المؤشرات توحي بأن قوى اليمين الروسية لم تستفد من دروس الماضي وما زالت متأثرة بالأجواء الصراعية التي خلفتها الحقبة السوفييتية في التنافسات الحزبية التي كانت تحسم حسب رغبات القيادة العليا. وبات الوضع بالنسبة لاتحاد قوى اليمين بالغ الخطورة على تركيبة الحزب ووجوده على وجه العموم نتيجة تداخل العوامل الموضوعية والذاتية مما يمكن اعتباره مرحلة الاحتضار النهائية رغم الفورة الكبرى الإعلامية والسياسية التي رافقت هذه النشاطات على خلفية انعقاد مؤتمر هذا الحزب في موسكو مؤخراً. ولمعرفة مدى رهافة هذه الأجواء يكفي أن نشير إلى أن هذه القوى كانت واقعيا قائدة للمرحلة اليلتسينية الأولى (ما بعد البريسترويكا) وكانت المرشح الأوفر حظاً للسيطرة على مفاتيح السلطة قبل سنوات وهي اليوم تحاول تقديم شهادة ميلاد جديدة في وثيقة قد تكون بحد ذاتها شهادة وفاة حقيقية. تصاعدت قوى اليمين عبر تجارب سلطوية مباشرة وهي الأرضية الحقيقية التي أعطتها زخما معقولا باعتبارها الرديف الأول للسلطة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لكن القيادات الشبابية اليمينية آنذاك اتسمت براديكالية واضحة سواء في المجالات الاقتصادية أو السياسية وكانت مسؤولة عن تسريع خطى انهيار الاتحاد السوفييتي بعقلية تجريبية حادة سميت في حينها بمصطلح العلاج بالصدمات (اقتصادياً) والذي قاده آنذاك غايدار، وبضرورة مساعدة الرجل المريض على الرحيل من الحياة (سياسياً) وكان العقل المدبر لذلك آنذاك بوربوليس الذي أرهص لما يسمى بالاتحاد السلافي الذي كان أساساً واقعياً لانهيار الاتحاد السوفييتي بما في ذلك تنفير الجمهوريات السوفييتية وتضييق الخناق عليها بالإجراءات والعملة الوطنية والاستقلالية والسيادة. ويلفت النظر بشكل خاص أن وزير الخارجية الروسية لافروف - ربما استنباطا من هذه المعطيات - أوضح مؤخراً أن روسيا ساهمت عملياً في دفع عجلة انهيار الاتحاد السوفييتي ولا تنوي إحياءه.. وأيا كان الأمر فقد انحفرت في ذهن الجماهير انعكاسات هذه المرحلة المعقدة مع رموزها ممن شكلوا فيما بعد ما يسمى بحزب اتحاد قوى اليمين الذي حاول في البداية أن يكون عاملا موضوعيا مواجها لقوى اليسار في وقت تنامت فيه قوى الوسط التي كانت أكثر ذكاء واستيعابا لظروف المرحلة حتى أن أحد رموزها الكبرى بريماكوف انسحب من الانتخابات الرئاسية مدركا أن الخوض في هذا الصراع في تلك المرحلة الحساسة يعني الخوض في مستنقع من الحملات والتشهيرات وكان الأقدر على شد الحبال بحيث تنفتح الستارة باتجاه الجمهور لا الكواليس التي ترعرعت فيها قوى اليمين. وهنا بالذات جرت التحولات النوعية الكبرى في الصراع على السلطة حيث استطاع بريماكوف وشامييف - رئيس جمهورية تتارستان - ولوجكوف عمدة موسكو- سحب البساط من تحت أقدام اليمينيين الراديكاليين معلنين توحدهم مع حزب السلطة مكرسين المثل الشعبي يضحك كثيرا من يضحك أخيراً. هذا الانعطاف أعطى أكله في الانتخابات البرلمانية عام 2003 وبدا حزب اتحاد قوى اليمين هشا ضعيفا لم يستطع لا تخطي الحاجز الانتخابي المقرر بنسبة 5٪ ولا حتى الحصول على 4٪ مما جعله بعيدا عن دخول البرلمان بعد أن كان يتنطح بشعاراته إلى السيطرة على السلطة عموما وكانت القيادة متمثلة بأربعة شخصيات رئيسية (هي تشوبايس العراب الأول للتوجهات اليمينية بدعم واضح من الغرب، وغايدار صاحب العلاج بالصدمات، ونيمتسوف الذي كان يطمح حتى بالرئاسة، وحاكمادا اللبرالية المثقفة التي تعيش أوهامها لدرجة أنها نافست بوتن في الانتخابات الرئاسية ولم تحظ حتى بواحد بالمائة من الأصوات). بعد الانتخابات البرلمانية سقطت ورقة التوت واضطرت هذه القيادة إلى التخلي عن دورها مع محاولة الحفاظ على هيكلية هذا التنظيم وتشتت التوجهات وتنامت الصراعات حتى داخل هذا القوام الهزيل. كل ذلك يفسر محاولة لم الشمل في مؤتمر عام لقوى اليمين حيث تم اختيار شاب لم يتجاوز التاسعة والعشرين من العمر (إمعانا في التجديد) لقيادة هذا الحزب وهو نيكيتا بيليخ نائب عمدة منطقة بيرم الروسية وتم اختيار ليونيد غازمانوف نائبا للرئيس كمحاولة لرأب الصدع الناشئ في الصراعات التي كادت أن تدمر ما تبقى من هذه القلعة المتهاوية. وإذا كان بيليخ مرشحا لكل من نيمتسوف وغايدرا فإن غازمانوف مرشح لتشوبايس وبالتالي تمت من جهة عملية التوصل إلى لغة أولى وسطية ومن جهة ثانية أظهر ذلك وجود صراعات طفت على السطح وكانت قد نشأت واقعيا على خلفية تحميل المسؤولية لهذا أو ذاك من هذه القيادات التي بدأ نجمها بالأفول على أرض الواقع وما من أحد يود الاعتراف بالفشل حتى أن تشوبايس لم يخف فوران غليله في هذا المؤتمر معلنا أن هناك قوى مالية وسياسية كبرى تسعى لتحطيم اتحاد قوى اليمين كحزب سياسي . الملفت للنظر في هذا السياق أن تشتت قوى اليمين عموما هو الذي أوصلها إلى هذا الواقع ذاك أن حزب يابلوكا اليميني بزعامة يافلينسكي لم يستطع أيضا اختراق حاجز الخمسة بالمائة في الانتخابات البرلمانية وحزب يابلوكا واتحاد قوى اليمين لا يختلفان من حيث الجوهر في برامجهما وشعاراتهما وقد جرت محاولات عديدة لتوحيدهما في حزب واحد وباءت جميعها بالفشل خاصة على خلفية وجود تنافر ساطع بين تشوبايس ويافلينسكي الذي يطالب بخروج تشوبايس من اتحاد قوى اليمين كشرط لتحقيق هذه الوحدة. والواضح للعيان أن اتحاد قوى اليمين ما زال يقامر على الدعم الغربي ولكن الغرب ليس شخصاً محدداً ولا يمكن أن يقامر بالمقابل على قوى لم تستطع أن تثبت وجودها في الشارع السياسي على خلفية أخطاء الممارسات عندما كان لها القول الفصل في المنظومة السلطوية ومن هنا جاءت بعض العبارات الطنانة في أروقة هذا المؤتمر حيث أعلن الرئيس الشاب المنتخب أن على الحزب أن يحقق في الانتخابات القادمة نسبة 15٪ ..!! وأعلن تشوبايس أن على الحزب أن يتخلص من استراتيجية الدفاع والانتقال إلى استراتيجية الهجوم ؟؟ - على من ؟ وكيف؟ وبأية أسلحة ؟ ومن كانت بيوتهم من زجاج لا يحق لهم رمي الآخرين بالحجارة في حين ترى المعارضة المتصاعدة داخل الحزب أن السؤال هو هل نستطيع أن نتماسك ونبقى؟ أي اللجوء إلى المقولة الشكسبيرية الإشكالية المعروفة (أن نكون أو لا نكون) وبعض المعارضين داخل الحزب يعلنون صراحة أن لا أحدا من رجال الأعمال والبيزنس ولا حتى من المهتمين بالسياسة يتقدم إلى صفوفهم. هناك جانب آخر يحتاج في الواقع إلى وقفة متأنية شاملة وهو أن الكرملين يمضي بتؤدة ولكن بذكاء في ترتيب أمور المستقبل على الصعيد السلطوي فالتعديلات القانونية بشأن الانتخابات البرلمانية والتي أقرت مؤخرا تلحظ جعل جميع المقاعد البرلمانية في إطار المنافسات الحزبية ورفع مستوى النسبة التي يحق للقوى السياسية تجاوزها إلى 7٪ وبهذا المعنى ستكون النسبة التي يمكن أن يحصل عليها اتحاد قوى اليمين حتى في حال توحده مع تجمع يابلوكا تحت إشارة استفهام لدخول البرلمان فكيف إن استمرت الأمور على هذه الشاكلة. الخلفية النوعية هنا هي أن الكرملين كان يستفيد من خدمات اليمين الراديكالي لمواجهة اليسار وتطلعاته ولكن اليسار الروسي نفسه تمزق وتم تحجيمه ولم يعد الكرملين بحاجة إلى خدمات كهذه خاصة أن رموز اليمين باتوا يعتبرون أنفسهم من المعارضين ولو من نوع خاص ويمكن للكرملين بالتالي استخدامهم كديكور مسرحي في لعبة التوازن الديمقراطية دون أن يدخل معهم في مساومات مباشرة فقد استطاع من خلال حزب روسيا الموحدة إدراج جميع ألوان الطيف السياسي اليميني واليساري والوسط على حد سواء وكلهم بالطبع تحت خيمة واحدة يرعاها الكرملين دون ثغرات ديمقراطية شكلية.