نلجأ أحياناً إلى الشعر ولا ندري لماذا...؟ أحياناً يلح عليك بيت يلازمك فترة طويلة وأنت تردده ولا تدري لماذا تردده...؟ وتسأل نفسك فلا تجد جواباً وإنما تجد البيت ملتصقاً بعقلك ولسانك.. وتجد لذة في ترديده. ثم يغيب هذا البيت.. وتمر فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر وأنت لا تردد شيئاً وفجأة يأتي بيت كما أتى سابقه فيلح على عقلك ولسانك. هل المسألة مسألة مزاج..؟ بمعنى هل كل بيت في عقلنا الباطن له مزاجه الذي يقابل أمزجتنا.. أم انها عاطفة تنطوي على سر غامض، فنجد البيت يلبي رغبة هذه العاطفة بناء على إشارات وجدانية تلقاها القلب وفقاً لقانون خفي نحسه ولا نلمسه ولكنه يجعل البيت المطلوب جاهزاً في الوقت المطلوب!؟ لهذا يظهر ما نردده بلا خيار ولا إرادة؟! في بعض الأحيان يكون للعقل دور في اختيار البيت وهنا يظل الاختيار إرادياً فنحن الذين نبحث عنه لأن موقفاً ما يتطلبه ونجد راحة حينما نعثر على البيت الذي يلبي رغبة الموقف.. أو بالأصح رغبة معاناتنا في الموقف. فأنت حين تكون بعيداً عن وطنك ويهبط عليك هاجس الاغتراب تراك تردد: أحنّ إلى أهلي وأرجو لقاءهم. وأين من المشتاق عنقاء مغُرب وحينما يفاجئك صديقك بموقف شهم نبيل على غير توقع منك ومن غير أن تطلب منه نجدة أو عوناً تراك تنشد: «غني عنك ما استغنيت عنه وطلاع إليك مع الخطوب» حينما تغضب لكرامتك لسبب قد آذاها ومس عصب النخوة فيها.. تجدك تردد مثل هذا البيت منفعلاً به: غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا وحين يشتد بك موقف وتضيق عليك الأمور تراك تردد: ضاقت، ولما استحكمت حلقاتها فُرجت، وكنت أظنها لا تفرج وحينما لا تتحقق أمانيك ولا طموحاتك تنشده أهمُّ بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونه وأطارده والذين يدب في قلوبهم رسيس الهوى ويعصف بهم عاصف الشوق كثيراً ما ينشدون مثل هذا البيت: يا ليت ذا القلب لاقى من يعلّله أو ساقياً، فسقاه اليوم سلوانا مثل هذه الأبيات كثيراً ما يستنجد بها المرء عند الحاجة. ولكن ما سر تلك الأبيات التي تأتي بلا دعوة فتراك ترددها في غاية الراحة والتفاؤل والاستئناس..؟ لاشك أن في النفس حاجات ورغبات وأموراً غير مكتشفة لا نعرفها ولا نعرف سرها ولا نجد تفسيراً لها إلا هذه الظواهر التي تنتج عنها. ولاشك ان الشعر ينجد النفس وربما يعالج أو يخفف معاناتها. فليس مصادفة أن يظهر بيت، وربما قصيدة وتطفو على سطح الوجدان وتظل تتحكم فيه، بل وتؤانسه في حالة من حالات صحوه الوجداني، ثم تعقب هدوءاً وراحة نفسية مشعة، ولكنها غامضة والتي قد يكون من المرجح أنها كانت بفعل البلسم الشعري الشفيف الذي نشر أجنحته على النفس والروح ثم رحل.