كثيراً ما أتساءل ان كان الشطرنج من اختراع انسان سوي مثلي ومثلك.. فعقولنا يمكنها التنبؤ بأول خطوة - والتعامل مع ثاني احتمال - ولكنها بعد ذلك تصاب بالعمى وتصبح الخطوات التالية بالنسبة إليها مجهولة وفوضوية ومفتوحة على كامل الاحتمالات! وفي المقابل يوجد في لعبة الشطرنج 318,979,564,000 احتمال ضمن أول أربع خطوات فقط.. أما الاحتمالات المتوفرة حتى نهاية اللعبة فتتسع الى ألف ترليون ترليون ترليون (ويمكنك تكرار هذا الكلمة ثماني مرات) احتمال يصعب توقعها. والمدهش أكثر أن جميع هذه الاحتمالات لا تعتمد على الحظ والصدفة - مثل بقية الألعاب - الأمر الذي يفسر صعوبة فوز الانسان على الكمبيوتر فيها (كونه يعتمد على معادلات رياضية دقيقة لا تترك فرصة للخطأ أو النسيان)!! ورغم أن الشطرنج تطور في بلاد العرب وجنوب أوروبا ترجح أغلب الروايات اختراعه قبل زمن طويل في الهند أو إيران. وحسب الرواية الهندية اخترع الشطرنج وزير يدعى (سيسا) كان يعمل لدى ملك يدعى (شرهام) أراد تسليته بلعبة تشحذ العقل وترفع الهمم.. ومن فرط إعجاب الملك باللعبة أراد مكافأة وزيره فطلب منه تحديد مكافأته بنفسه.. الوزير الذكي طلب حبة أرز واحدة (فقط) توضع في المربع الأول ثم تضاعف في المربعات التالية حتى تنتهي مربعات الشطرنج الأربعة والستين.. ورغم أن الملك سخر من طلبه أمر له بما يريد فاتضح في النهاية أن أرز الهند بمجملة لن يكفيه بهذه الطريقة (حيث ستتضاعف حبات الأزر مربعا بعد آخر حتى تصبح في نهاية الرقعة 18,446,744,073,709,551,615 حبة)! أما الرواية الفارسية فلا تقل فلسفة وجمالا عن الرواية الهندية.. فهي أيضا تتحدث عن ملك طلب من أحد الفلاسفة اختراع لعبة تعتمد على الحظ وتعبر عن تحكم الأقدار والصدفة بحياة الانسان؛ وخلال أيام عاد الفيلسوف حاملا معه لعبة النرد أو الزهر التي يمكن رمي مكعباتها عشوائيا على الأرض (واحتمال ثباتها على أي رقم من أوجه المكعب الثمانية). وبعد وفاة هذا الملك خلفه ملك لا يؤمن مثله بالحظ والصدفة فطلب من نفس الفيلسوف ابتكار لعبة تعبر عن حرية الاختيار ومسؤولية الفرد وعاقبة تصرفاته في الحياة.. وخلال أيام عاد الفيلسوف حاملا معه لعبة الشطرنج التي تعتمد على معادلات رياضية وتراكيب منطقية واحتمالات محسوبة يختارها اللاعب بنفسه (وبيني وبينكم هذا هو سر حبي للشطرنج وعجزي عن إتقان أي لعبة تعتمد على جلوسنا بانتظار الحظ)! وتستمر الرواية لتخبرنا كيف أعجب الملك بالشطرنج فطلب وضع خطط حربية تعتمد عليها.. أما الفيلسوف فوضع معادلات رياضية تعتمد على احتمالات التحرك فوق رقعته المربعة - وأقنعه بأنها تنطبق أيضا على ما يحدث في حياتنا اليومية! وتشير المصادر التاريخية الى أن الشطرنج حضي باحترام كافة الحضارات التي مر بها كونه يشحذ العقل ويشجع على التفكير ويساعد على تتبع الاحتمالات.. فالهنود مثلا كانوا يرونه تجسيدا لفلسفة الوجود وتبلور الأحداث، والفرس اعتمدوه في السياسة وترتيب الفرق العسكرية، والرومان اختاروه كعنصر حاسم لاختيار سفرائهم وقادة جيوشهم.. كما تشير كتب التراث الى انتشاره في بغداد في فترة الازدهار العباسي واعتباره معينا لا ينضب من الاحتمالات الرياضية في بيت الحكمة (وسأخبركم في المقال القادم كيف تغلغل في روسيا الحديثة ودخل ضمن المناهج الدراسية ومكونات الشخصية الروسية)! على أي حال؛ رغم احترامي للهنود والعرب والروس، وكل الشعوب التي ساهمت في ابتكار الشطرنج أجيب على السؤال الذي عنونا به المقال وأرجح (الإيرانيون) كمخترع أساسي له. فحين تتأمل تاريخهم القديم مع اليونانيين والرومان والعرب، وتاريخهم الحديث مع أمريكا وأوربا ووكالة الطاقة النووية تشعر أنهم يلعبون السياسة بطريقة الشطرنج، ويتعاملون مع "العالم" كرقعة مربعات تضم عددا كبيرا من الاحتمالات!