بعد أن تقاعد "أبو سليمان" من وظيفته قبل عدة أشهر اتخذ له مكاناً قصيّاً في داره؛ ليعيش فيه شبه منعزلٍ بين أبنائه الأربعة الذين لم يعد يتشوق للجلوس معهم، وتبادل الأحاديث والسؤال عن أحوالهم وأخبارهم كما كان يظن أنه سيفعل، كان أبو سليمان ذو ال (65) خريفاً يتطلع إلى أنْ يكون بعد التقاعد أكثر قرباً لأبنائه، وأكثر أنساً في مجلسه، وكان يعتقد أنّ وقته سيمر من دون أنْ يشعر به وهو بين أسرته، حيث تملأ أحاديثهم المجلس وتسود مسامراتهم أرجاء المنزل، إلاّ أن شيئاً من ذلك لم يحدث، واتضح له أن كل فرد من أفراد عائلته يعيش عالمه الخاص، وأسلوب حياته المعتمد على التقنية والأصدقاء والمظاهر الاجتماعية، واصطدم "أبو سليمان" بهذا الجيل الغريب - كما يطلق عليه - الذي يفضّل الخلوة مع نفسه ومحادثة أصدقائه، ومن دون أدنى مراعاة لشعور أهله أو محاولة التواصل معهم ومعرفة أحوالهم، ولم يعد يأبه لمسألة تشتت الأسرة ولا للمعاني الجميلة التي تفيض بها الأجواء الأسرية. شاب في عالم آخر بين أفراد أسرته عدم اكتراث لقد تلاشت معالم الدفء والسعادة عن معظم بيوتنا، وأصبح "الطفش" والملل هي الكلمة السائدة والأكثر ترديداً في المنزل، ولم تعد السكينة والمودة والأجواء الحميمية عنواناً لمعنى الأسرة، ولن نبالغ إن قلنا أن الجو الأسري أصبح عبارة نسمع بها ولا نستشعرها في منازلنا، فأجهزة التقنية أفسدت المجالس، وأصبح الاستمتاع بالوقت لا يتأتى إلاّ باستخدام التقنيات الحديثة حين تجد الأم تقضي وقتها أمام شاشة التلفاز، والأب يتابع آخر الأخبار والمستجدات عبر (اللاب توب)، والشاب يتواصل مع صديقه عبر برامج المحادثة والدردشة، والفتاة تتصفح المواقع الالكترونية عبر (الآيباد)، فكلٌ يُشعر الآخر بأنه ليس ذا أهمية أمامه وأنّ وجوده وغيابه سواء، وما يحدث في المجالس اليوم من انشغال بالهواتف أو غيرها هو انعكاس لقلة الاحترام، وعدم اكتراث للصورة المستهترة وعدم محاولة تقويمها. فتاة منعزلة عن محيطها الأسري وتقرأ من دون ضجيج تأثير النمط الغربي إنّ التطور الكبير الذي طرأ على تكوين الأسرة مؤخراً؛ والذي كان للتأثر بالنمط الغربي دور كبير في تغييره، وساهم بشكل ملحوظ بحصر الأبناء في قوقعة خاصة بهم، ومنحهم الحرية في اختيار أسلوب رعايتهم وتربيتهم، واعتبار تدخل الآباء أو الأمهات في شؤونهم أساليب تربية قديمة، وقد طال هذا التأثر البُنية الداخلية والخارجية للمنازل؛ حيث استبدلت البيوت ذات المجالس الواسعة بتلك الغرف الصغيرة، التي تعطي المساحة الأكبر في المنزل لغرف النوم فقط، كما طال هذا التأثير التكوين الداخلي في المنزل بعد أنّ تقلص عدد أفراد الأسرة ليقتصر على الزوج والزوجة والأبناء فقط، وعلى النقيض كانت المنازل في السابق عامرة بأكثر من أسرة يجتمعون فيها، ويستقبلون زوارهم، ويتبادلون الأحاديث، ولقد كان لهذا التضامن الأسري دوره الفعال في التغلب على إحساس الوحدة و"الطفش" الذي يعانيه كلَّ منزل اليوم. الخروج العائلي إلى المتنزهات يقلّل من حالة الطفش ضياع كينونة الأسرة وترى "حنان الجمعة" أن هذا الحال الذي وصلت إليه الأسرة هو ضريبة التقدم وأسلوب الحياة العصري الذي أردناه وربما ارتضيناه؛ الأمر الذي جعلني أستسلم أمام انشغال الزوج والأولاد بالتكنولوجيا، فما كان مني إلاّ أنْ أشاركهم اهتماماتهم، فأحضرت لي جهاز (لاب توب) أقضي فيه وقت فراغي، وأستمتع بقضائه معهم، حين نتشارك المكان أجساداً بلا قلوب كلٌ منشغل بهاتفه، أحدهم يقرأ الأخبار الرياضية، والآخر يتابع صفحته على (الفيس بوك)، وذلك يتابع حسابه على (التويتر) ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تدّعي الترابط والتعارف وهي في الحقيقة تشتت شمل العديد من الأسر، وبنت تلك التقنية فجوة بين الآباء وأبنائهم بكل أبعادها العمرية والفكرية والثقافية، وما يتعلق بالعادات والتقاليد، وما يرتبط بدخول تكنولوجيات جديدة وتطور على مختلف الأصعدة، فهذا الجيل يتمتع بخصوصية فريدة؛ بسبب ما دخل في عصرنا الحديث من تطور متسارع لم تشهد له الحقبات الماضية مثيلاً، وما شهده من تقارب في الزمان والمكان، وأفقدت الأسرة كينونتها وأواصرها المتينة. انقطاع التيّار وقالت "خلود المسلم" إنّ التكنولوجيا أخذت حيزاً كبيراً في الحياة الأسرية حتى كادت تنسينا ملامحها، والمخيف في الأمر هو حين لا نعي واجباتنا الاجتماعية، ونقصّر فيها بسبب انشغالنا التام بالتقنية، إضافة إلى تقصيرنا بأمور الصلة الاجتماعية المعروفة كصِلة القربى والجيرة الحسنة، فأبناء العم والخال باتوا لا يتزاورون إلاّ في مناسبات العزاء والفرح، وحتى في حضورهم تجدهم منشغلين بهواتفهم النقالة، أما الجار فلم يعد يعرفه منه إلاّ شكله. وأضافت "خلود" أنّها مازالت تتذكر ما حدث لهم في أحد أيام الصيف؛ حين انقطع التيار الكهربائي عن منزلها وقت الظهر فلا تلفاز ولا انترنت ولا تكييف، مما اضطرهم للاجتماع في غرفة واحدة، يتواجد بها نافذة كبيرة ليدخل منها الضوء والهواء، وأنّ ذلك اليوم أول مرة تجتمع جميع افراد الأسرة وتحدثوا مطولاً وضحكوا، ولم نتوقف عن ذلك رغم الحر الشديد، وانقطاع كل وسائل الترفيه، ولم تداهمهنا لحظة الضجر والملل الذي كنا نشتكي منها كثيراً، وأدركت حينها آثار التقنية في حياتنا الاجتماعية. صلة الأقارب إنّ الوحدة والملل والسأم التي يشعر بها أفراد الأسرة غالباً ما يعود سببها إلى بُعد الصلة بالأهل والأقارب، التي كانت منتشرة في السابق، وكانت تُلبي حاجة الإنسان إلى الاجتماع والمؤانسة مع الآخرين، وهو ما تفتقده كثير من الأسر اليوم، فالإنسان اجتماعي بطبعه، لذا كثيراً ما يتم التعويض عن هذا النقص بالانشغال بالعمل أو الاستعانة بالتلفاز والإنترنت، أو عن طريق إنشاء صداقات جديدة مبنية على علاقات أو مصالح شخصية.