بعد تحوّل بوصلة العرب عن النضال المسلح ضد إسرائيل وطرح أوراق معاهدات السلام على طاولة المفاوضات في منتصف السبعينيات الميلادية , ظهر موقف الدول المعارضة لهذا التوجه وأسمت نفسها بدول الصمود والمقاومة , على رأسها سورية وليبيا اللتان وجدتا نفسيهما في تلك المرحلة أمام شعوبهما حكومات عسكرية بلا شرعية وبلا منجز حضاري أو تنموي، وتدهور في البنى التحتية , فكانت عند هذه الدول شعارات النضال والصمود والمقاومة فرصة ذهبية وسيفاً خشبياً كسيف (دون كيشوت) تلوح به لتصارع طواحين الهواء، وتستمد شرعيتها به ومن خلاله . وظلت شعارات الصمود والمقاومة هي واجهة سياسية لايحيد عنها النظام في سورية بعد أن وجد فيها ومن خلالها تسويغا لتضخم بل وتغوّل النظام الاستخباراتي الأمني داخل سورية تحت حجة حالة المواجهة مع العدو وأذنابه المندسين بين الشعب, أيضا وجد بها النظام السوري وسيلة ناجعة لابقاء البلد في مايشبه حالة الأحكام العرفية التي يتقلص فيها النشاط المدني إلى حده الأدنى على حساب تضخم الكيان العسكري , وأخيراً كان النضال والمقاومة مسوغا أيدلوجيا للنظام السوري لاحتلال لبنان وبسط هيمنته عليه وتصفية وتفجير من يحاول أن يعترض ,على اعتبار أن لبنان هو العمق الاستراتيجي لسورية كدولة مواجهة. وكان النظام لتلميع هذه الواجهة يستعين بجوقة من الحرس الإعلامي القديم من مثقفي المقاهي وكهول القومجية الذين يتأبطون في حقائبهم قواميس النضال ومفرداته وفي نفس الوقت يعدون قوائم التخوين والتهم لمن يخالفهم الرأي , وكانت أبرز التهم هي تهمة (تثبيت المشروع الأمريكي في المنطقة). ولكن هذه الواجهة الصاخبة الزاعقة لم تكن تستطيع أن تخفي حقيقة المقايضات والتحالفات بين النظام السوري، وأمريكا وإسرائيل , بل إن أمن النظام السوري ظل مرتبطا بأمن إسرائيل منذ عهد الأسد الأب . على سبيل المثال كان سكوت الولاياتالمتحدة التي تتزعم ماتسميه بالعالم الحر على المجزرة التي قام بها نظام الأسد الأب ضد شعبه من الإخوان المسلمين في حماة , هو مقايضة مُررت بهدوء مقابل سكوت سورية التي كانت تحتل لبنان آنذاك على مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان . وكانت دوما تلك التوازنات بين النظام السوري وأمريكا قائمة مقابل حفظ أمن القاعدة العسكرية الأمريكية في المنطقة أو مايطلق عليها دولة (إسرائيل) ,وقد تتوتر تلك العلاقة وتتشنج لفترة قصيرة لكن سرعان ماتعود تخضع لشروط التوازنات , بدليل عودة كل من السفير الأمريكي والفرنسي إلى سفارتيهما الآن في دمشق بعد فترة زعل قصيرة , ليشاهدا بدم بارد الإبادة الجماعية التي تمارس ضد ثورة الشعب السوري دون أي بوادر لتحرك دولي . اليوم وبعد المجازر التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه ,وشلالات الدم التي تفور هناك , ومحاولة وفد الجامعة العربية تضييع الوقت وتشتييت الانتباه , وإعطاء المزيد من الفرص للنظام لكي يستجمع قواه ويمعن في إراقة الدماء , فإننا لا نلمس هناك أي تحرك دولي , حيث يتحجج المجتمع الدولي بوجود معارضة من الصين وروسيا في مجلس الأمن تمنعه من التدخل ( تلك المعارضة التي لم تثن المعسكر الغربي عن احتلال العراق في وقتها ) لكن المحللين السياسين بالتأكيد يعلمون أن هناك قلقا دوليا على أمن إسرائيل الذي كانت تحفظه حزمة من التوازنات السرية مع النظام السوري بالاضافة إلى عدم رغبة الولاياتالمتحدة وحلفائها في التورط من جديد في مصيدة الخليج العربي المتشابكة. ولا يدري المراقب هناك أين سيكون الحل هل هو عن طريق انشقاق الجيش نفسه ضد النظام كما في مصر , أم التنسيق لتحرك دولي بواجهة تركية على الحدود , أم فقط سيظل العالم يتأمل ارتفاع أعداد الشهداء والقتلى في سورية دون أي حراك؟!