صمت مطبق إلاّ من بقايا أزيز معدات نزع الأدوات الصحية والأبواب من داخل العمائر والبنايات الشاهقة.. وأزقة صامتة غاب عنها الضجيج.. وحوانيت مقفلة تعددت فوق واجهاتها بضائع العرض.. وعمالة وافدة تجوب المكان سعياً وراء المغادرة.. هكذا هو حال اللحظات الأخيرة في حياة حي النقاء بمكةالمكرمة الأقرب للحرم المكي اليوم -الذي لا يبعد عنه أقلَّ من 400 م-، بعدما تقرر إزالته لصالح توسعة الساحات الشمالية للمسجد الحرام، وضمن توسعة خادم الحرمين الشريفين؛ مما سيحوّل الحي القديم من محلات بيع اللحوم والكبدة والفحم إلى ساحة تتبع الحرم المكي، حيث قُدّر سعر المتر المربع للعقارات المنزوعة ما بين 180 إلى 200 ألف ريال للفنادق والعمائر التي تقع على الشارع الرئيس، وبسعر يتراوح ما بين 150 إلى 170 ألف ريال للعقارات التي تقع داخل الحي. وبيّن «حميد النمري» أن الحيّ التاريخي عُرف بأنّه احتضن أشهر محلات بيع كبدة الحاشي وعلى مدار نصف قرن، حيث يلتقي كبار السن من السائقين والكادحين في المحل الشهير صباحاً لتتحول الأمكنة إلى جلسات لسرد الماضي الجميل. وقال «أسعد حسني» -عاش مراحل الصبا في حي النقاء- «أذكر أنّ هناك مطاعم مشهورة كانت مقصداً لأهل مكة لتذوق الأكلات الشعبية المكية، حيث تفوق أهل النقاء في إتقان الأنواع القديمة من الطعام الحجازي، وكان الزحام يحاصر تلك المحلات التي تتطاير منها روائح الطعام، وسط ضجيج يغطي الأمكنة وكان أشهر المطاعم وقتها مطعم الصبياني لبيع الكباب، ومطعم الرواس لبيع الفول، ومطعم البراشي لبيع الكوارع»، موضحاً أنّ الحي ملحق بضاحية الشامية، ويقع بين طريق الغزة وطريق الفلق، وأَخَذ شُهرته وأهميته من قربه للحرم المكي، وملاصقته لأشهر أسواق مكةالمكرمة «الجودرية»، والحلقة القديمة التي كانت مقصداً لأهل مكةالمكرمة، مشيراً إلى أنّ النقاء يجاور عدة مقار حكومية منها عمارة البريد، والتي بنيت عام 1392ه بعدما كانت مبنية بالحجر لسنوات طويلة، كما يحتضن إدارة مياه عين زبيدة، ومسجد الشيخ «محمد صالح جمال» ويعتبر المسجد الوحيد في الحي، وواحدة من أقدم المدارس في مكةالمكرمة هي المدرسة المشعلية التي احتضنت كبار رجالات الدولة والمسؤولين في كثير من القطاعات، كما احتضن مقهى قديماً كان مظلة لاجتماع كبار السن من أهل الحي، يتحول عادةً إلى فندق مفتوح آخر الليل، حيث تكون كراسي الجلوس أسرّة نوم للمقطوعين والعزاب، مضيفاً أنّ من مشاهير الحي الشيخ «علوي مالكي» المدرس في الحرم المكي، و»بازان الملك عبدالعزيز» - سبيل الملك عبدالعزيز- الذي كان مورداً للماء لأهل مكةالمكرمة، حيث تُوفر فيه إدارة المياه الماء عن طريق الصهاريج القديمة، ويجتمع السكان حولها بتشغيل الصنابير.وأشار «عبدالله أبكر» -المهتم بالتاريخ المكّاوي- إلى أنّ حي النقاء نشأ برغبة سُكّانه في مجاورة البيت الحرام، والاشتغال بالطوافة والتجارة؛ مما وثَّق أواصر القربى بين مختلف الأجناس والثقافات من العالم الإسلامي جمعها ذلك الحي القديم، والذي يعتبر حارة من بين 12 حارة تتحلق حول الحرم المكي، وكان يمثل روعة التعاون الأمني من خلال تحالفه مع أحياء قريبة منه، وتجاوزت الحاجة الأمنية إلى مقاصد أخرى مثل النواحي الخيرية والاجتماعية.وطالب مهتمون دارة الملك عبدالعزيز والهيئة العامة للسياحة والآثار العمل على توثيق المواقع التاريخية في تلك المنطقة قبل إزالتها، والتي يعد «بازان الملك عبدالعزيز» من أهمها، حيث تشير اللوحة التأسيسية أنه أُنشىء في السبعينيات الهجرية، ويجسد اهتمام المؤسس -رحمه الله- بتوفير المياه للسكان والحجاج والمعتمرين، والذي أصبح معلماً من معالم الحي المهيأ للإزالة. سبيل الملك عبدالعزيز ينتظر التوثيق من «الدارة» و»هيئة السياحة»