عرف الإنسان الحياة، وعاش في أكناف الأرض، منذ بدء الخليقة: التحف بالسماء، وتوسد الأرض، وأكل من خيراتها. فأغدق الله سبحانه وتعالى عليه بنزول الغيث والأمطار المنهمرة. كما جاء في قوله تعالى: (وجعَلَنا من الماء كل شيء حيَّ أفلا يؤمنون) آية 30 من سورة الأنبياء. أنشأ الإنسان من مناهل السيول ومجاري المياه، بعمل السدود الكبيرة والصغيرة بين الشعاب والوديان وبين تلال الجبال، ثم حفر الآبار واستخرج المياه، كما أنعم الله عليه بالعيون والمياه الجارية التي تسيح من باطن الأرض. وبذلك أقيمت الحقول الزراعية والأراضي السكنية، واستوطنت البشرية حول منابع المياه والعيون المتدفقة. وكانت جزيرة العرب ومهبط الرسالة السماوية بتكويناتها الطبيعية من جبال وصحاري، وسهول، وتلال، وأودية وشعاب في حفظ مياه الأمطار والسيول الجارفة.. ومن هذه البقعة الجغرافية من أرض الحجاز (الطائف - مكةالمكرمة - جدة - المدينةالمنورة)، وقبل مئات السنين نمت الحياة البشرية، وعُمِرتْ هذه المدن وأصبحت آهلة بالسكان والمساكن وتطورت في البناء والتعمير وأقيمت الأحياء والأزقة والشوارع التي انتشرت فيها العيون والمياه الجارية وأنشئت البازانات من حولها، وخلال القرون الماضية تم بناء مناهل للعيون، وذلك بعمل قنوات، ودبول، وخرزات مائية، ثم عُملت الصهاريج العميقة، والخزانات، والبرك، والبازانات لحفظ تدفق المياه ليعيش الإنسان حياة رغيدة، على الرغم من قلة نزول الأمطار وعدم وجود الأنهار في أراضي الحجاز وخاصة المنطقة الغربية.. ومن هذا المنطلق الجغرافي اشتهرت الطائف منذ القدم بكثرة عيون المياه، حيث يتردد على أفواه العامة أنه كان على وادي وج وحده ما ينوف على تسعين عينًا قديمًا، كما قدرت خلال السنوات الماضية أكثر من عشرين عينًا والآن لم يتبقَ منها أي أثر لهذه العيون وهذا عائد للتطور العمراني والكثافة السكانية وشق الطرق وزفلتتها ما أدى إلى اندثار معالمها. * العيونبالطائف: (1) العيون على وج: عين المخاضة، عين شقرى، عين الوهيط، عين الحطابة، عين الوهط، عين المثناة، عين الفيصلية، عين السلامة، عين شبرا، عين الجال، عين القطبية، عين قملة، عين العقيلة، عين العقرب، عين أم الهيثم، عين المبعوث. وادي قروى: عين قروى، عين الحوش، عين العواجية. وادي جفن: عين الأصيفر، عين شيحاط، عين دَحْنا، عين مُرُع. وادي قرن: عين الدارالبيضاء. وادي لية: عين خد الحاج: (1) * العيونبمكةالمكرمة قديمًا: (2) توجد بمكة ونواحيها عدة عيون ومياه جارية منها: عين المضيق، عين الجديدة، عين سُؤْلة، عين الهُمَيجة، عين القُشاشية، حائط عوف بها عين، حائط الصَّفي بها عين، حائط مورش بها عين، حائط خُرمان بها عين، حائط مقيصره بها عين، حائط حراء بها عين، حائط بن طارق بها عين، حائط فخ بها عين، حائط بلدح، حائط ابن العاص، حائط سفيان، إضافة إلى عين عرفة وعيون وادي نعمان وعين زبيدة، وغيرها من العيون الكثيرة. (2) * ندرة العيونبجدة قديمًا: (3) ندرة المياه العذبة بجدة، لعدم وجود عيون قريبة من مدينة جدة، وقد عُمِرتْ جدة على شاطئ بحر ملح أجاج (البحر الأحمر) تحيط بها سهول ورمال بحرية، وليست بها عيون جارية. وما تجود به الأمطار والسيول على جدة. فقد صنعوا وأنشأوا خزانات (صهاريج) عديدة لتجميع مياه الأمطار بها، وعملوا لها مداخل ومخارج للماء لهذه الخزانات. وخلال القرن الهجري العاشر في عهد السلطان قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك حكام مصر والحجاز، فقد جلب الماء من وادي (قوس) الواقع شمال الرغامة، وتوقفت مياه هذه العين عدة قرون، فتم تعمير العين ونظافتها وبئرها سنة 1270ه، حينما قام أحد تجار جدة (فرج يُسُر) بإعادة إجراء العين مرة أخرى. ومع بداية عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله) فقد جلب المياه إلى مدينة جدة من عيون وادي فاطمة، وأنفقت الدولة في ذلك التاريخ ملايين الريالات لتوصيل المياه العذبة إلى مدينة جدة في هذا العهد الزاهر. وسميت هذه العيون باسم (عين العزيزية) نسبة إلى الملك عبد العزيز آل سعود(3). * العيونبالمدينةالمنورة قديمًا: (4) توجد بالمدينةالمنورة بعض العيون وأهمها (العين الزرقاء) مترامية الأطراف في غير ناحية من المدينةالمنورة، كعينيْ الرجال والحريم الواقعتين بجوار مسجد أبي بكر الصديق (رضى الله عنه)، وكما توجد عدة مناهل للمياه وهي: منهل باب السلام، ومنهل حارة الأغوات، ومنهل الساحة، ومنهل الزكي للرجال والحريم، ومنهل الفائض جوار الداوودية، ومنهل الفائض الثاني جوار محطة الزغبيي، وعين الزرقاء قام بإنشائها مروان بن الحكم، جاء بها من منابعها من حرة شوران في قباء وعمل لها دبلًا (مجرى) حتى أدخلها إلى المدينةالمنورة وجعل لها عدة مناهل.(4) أما نشأة البازانات في مدن الحجاز، فقد كانت نقلة نوعية في تقديم أهم مصدر في هذه الحياة (الماء)، بعد أن تم تقديم عرض موجز ومختصر عن مناهل المياه (العيون) في مدن المنطقة الغربية (مكةالمكرمة)، ومن هذا المنطلق التاريخي في جلب المياه من (البازانات) -مفردها (بازان)- سنتطرق هنا إلى تاريخ نشأة (البازان) في كل من (الطائف - مكةالمكرمة - جدة - المدينةالمنورة). وكان حديثنا عن العيون في الحجاز، مدخلًا تاريخيًّا عن نشأة البازانات وتسميتها ومواقع أماكنها. وحتى يتطلع القارئ الكريم كيف كان البازان يؤدي دوره في حياة المجتمع الحجازي (المنطقة الغربية) ودور السُقاة قبل نصف قرن. قال أبو الوليد الأزرقي (رحمه الله): كان معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه قد أجرى في الحرم عيونًا واتخذ لها أخيافًا، فكانت حوائط وفيها النخل والزرع (5)، وكانت هذه العيون قد انقطعت وذهب ماؤها، فأمر الرشيد بإعادتها ثم أتت أم جعفر بنت أبي الفضل (زبيدة زوجة هارون الرشيد) فأمرت في سنة 194ه بإصلاحها وعملت لها بركة بمكة، وخلال القرون السابقة دمرت هذه العيون بسبب الأمطار والسيول على مكة وضواحيها والإهمال في عدم صيانتها، وكان الخلفاء والسلاطين عند انتظام سلطتهم كلما بلغهم حدوث خراب في هذه العيون أو قنواتها يرسلون من يعمر ذلك بدءًا من عام 241ه وعام 245ه إلى عام 594ه، ثم إلى سنة 605ه، ثم إلى سنة 633ه، ثم عَمَرها الأمير جوبان نائب السلطان أبي سعيد ملك التتار بالعراقين سنة726ه، فقد عَمْر بازان رسول الأمير جوبان عين عرفة، ومن هذا العمل أُطلق اسم بازان على هذه العين باسم (عين بازان) (5). وهناك مصدر آخر يقول: إن أهل مكة يطلقون على موارد المياه كلمة (بازان) وسبب ذلك أنه في عهد المنتصر العباسي، حصل خراب في مجرى العين في سنة 726 ه، فكلف الخليفة نائب السلطنة (جوبان) بتعمير ما خرب، وهو بدوره بعث الأمير (بازان) لتعمير العين الواقعة بوادي نعمان و(عرفة)، حينها أطلق عليها المكيون كلمة (بازان)، وسميت بهذا الاسم على جميع موارد المياه بمكة، والطائف، وجدة، والمدينة (6). ومنذ ذلك التاريخ أي منذ سنة 726ه لا يزال اسم (البازان) يتردد على أفواه الناس إلى اليوم أي ما يقارب أكثر من (700 عام) وليس كما ذكر في السابق بأن كلمة (بازان) كلمة فارسية أو تركية، بل هي اسم لشخص في عصر دولة المماليك. وتعريف البازان: هي بئر في الأرض قاعه مجرى العين وينزل إليه بدرج، وقد يكون عميقًا، وقد يكون قريب الغور حسب بُعد القناة عن سطح الأرض وقربها، وهذه البئر تعمل ليستقي منها الناس. * البازانات في الطائف (7): وخلال مشاهدتي لبازانات الطائف قديمًا، وأتذكرها جيدًا بأن (البازان) حفرة عميقة تقدر بحوالي 10 أمتار، ولها فتحة مربعة إلى الأعلى، وعليها دلوان لجلب الماء من داخل البازان ببكرة لسحب الماء، وكان في الزمن السابق.. يضعون الماء في قربة كبيرة، تُحمل على الظهر وتُربط بحبل لإفراغ الماء بالحنفية، والذي يجلب الماء من البازان يطلق عليه اسم (السقا). وهذه البازانات موزعة على عدة أماكن من أحياء الطائف: البازان الأول، يقع بحي أسفل بجانب السور مما يلي البرج الشمالي، والبازان الثاني: يقع بجانب السور من الجهة الشرقية، أما البازان الثالث فموقعه بحي السليمانية مما يلي من البرج الجنوبي من جهة السور، وأنشئ بازان آخر بباب الريع بحي فوق من الجهة الغربية الجنوبية من السور، وموقعه حاليًا جوار مبنى بلدية غرب الطائف بالقرب من المحلات التجارية والبوفيهات على شارع البلدية وشارع الحديبية، وبعد فترة من الزمن استحدثت طريقة أخرى في جلب المياه عن طريق الزفة، حيث تُحمل الزفة على كتف السقا، وتتكون الزفة من برميلين صغيرين مثل حجم تنكة السمن وبها خشبة تربط في الوسط بسلسلة على عود صلب من الخيْزران. واستهلاك الماء للمنزل من زفة واحدة في اليوم إلى أربع زفات حسب حاجة أهل البيت. وكثير من السقائين يملكون براميل كبيرة تباع فيها الماء على المواطنين، وتوضع هذه البراميل على عربة الكرو التي تجرها «البهائم» ويجوب بها بين الأحياء والبرحات. وكان سعر الزفة في ذلك الوقت ست هللات للزفة الواحدة ثم إلى قرش ونصف إلى قرشين إلى ثلاثة قروش ثم ارتفع السعر إلى ربع ريال ثم ازداد السعر إلى نصف ريال وفي بعض الأوقات إلى ريال حتى بداية دخول الماء إلى المنازل في بداية عام 1388ه. من قِبل إدارة عين الطائف، واختفى دور السقا الذي يجلب الماء من البازانات، فاندثر مَعلم من معالم الماضي القريب، وأصبح دخول الماء عبر المواسير من قسَّام المياه في الشارع رويدا رويدا حتى عام 1390ه. حيث أخذ دخول الماء ينتشر سريعًا بين المنازل في جميع الأحياء والشوارع حتى يومنا هذا بأرخص الأثمان من المياه النقية المحلاة. وكان لكل بازان من البازانات التالية، بازان باب الحزم، وبازان باب الريع، وبازان باب ابن عباس لها شيخ، ينظر في قضايا السُّقاة (السقائين) والمواطنين في حل بعض المشكلات في توريد المياه للمنازل والبيوت والقصور والمحلات التجارية، مثل: بائع اللحوم والخضروات والأجبان، ثم أصبح شيخًا واحدًا لجميع هذه البازانات، وهو الشيخ محسن بن حريب (رحمه الله) شيخًا لبازان باب الحزم وغيرها. بازان في حي أسفل جوار بيوت آل ابن حريب بجوار باب الحزم، وبازان جوار قصر الملك فيصل، وبازان في حي فوق - باب الريع، وبازان في حي السلامة، وبازان في حي السليمانية بجوار حمام الشفا، بازان ببرحة العباس، وبازان في حي الشرقية جوار منزل العبيكان، وبازان في حي اليمانية مع الخرزات الموجودة بالأحياء مع استخدامهم البزابيز في بعض البازانات مع (الدلو). وكان (البازان) متصلاً بقناة أرضية إلى موقع الخرزة ثم إلى العين وخاصة عين شبرا. وبعض البازانات لها بزابيز لصب الماء في الزفة، وفي عُرف أهالي المدينةالمنورة يطلقون على بزبوز الماء (كلمة كباس) قديمًا كما يطلقون على كلمة بزابيز (صنابير). * مواقع البازانات في مكةالمكرمة (8): باب بازان: سمي قديمًا بني عائد أو باب النعوش وهو أحد أبواب الحرم المكي، وذلك لقرب الباب من بازان الماء. بازان فقير الذئب الأعلى - بازان فقير الثاني - بازان الحقابة - بازان المعترضة - بازان الشِعْبْ - بازان سوق اليل - بازان القشاشية - بازان جياد - بازان بسوق المعلا وسمى بازان التمارة - بازان جرول - بازان الشامية - بازان السفلي - بازان الشبيكة - بازان حارة الباب - بازان دقم الوبر - بازان بحارة المسفلة. (2). * موقع بازانات جدة (9): بازان داخل البلدة وسط جدة قديمًا- بازان العيدروس عدد2- بازان حارة التكارورة عدد2- (أي حارة التكارنة) بازان الهنداوية - بازان البخارية- بازان الفلاح عدد2- بازان المظلوم - بازان المعمار - بازان البرحة - بازان البنط - بازان الثعالبة - بازان مدينة الحجاج - بازان الكندرة - بازان البغدادية - بازان الرويس الأعلى - بازان الرويس الأسفل - بازان المطار - بازان كيلو2 عدد2- بازان كيلو3 عدد2- بازان كيلو6- بازان السبيل بعض بازانات جدة تستخدم الصنابير (البزابيز) والبعض الآخر عن طريق الدلو. (9). * موقع بازانات المدينةالمنورة (10): بازان شارع العينية- بازان باب التمارة - بازان مسجد أبي بكر الصديق- بازان مسجد الغمامة - بازان جوار حمام طيبة - بازان جوار حمام ديروان - بازان حارة الأغوات - بازان الساحة. كذلك أهالي المدينة يستخدمون البزابيز ويطلقون عليها (كباس). (10). وهذه البازانات الواقعة في مدن الحجاز، قد بنوا وأنشأوا لها مجموعة كبيرة من القنوات المائية والدبول والخرزات لتسهيل وصول المياه إلى البازانات، فقد عاش أهل وسكان الحجاز على هذه الموارد للمياه خلال القرن الماضي القريب. المراجع: 1)- العيون في الحجاز وبعض من أوديته - الشريف محمد بن منصور آل عبد الله، ص20-223- ط 1415ه. 2)- المصدر السابق، ص 50 – 53 - 224. 3)- موسوعة تاريخ مدينة جدة ج1 –141 158- عبدالقدوس الأنصاري. 4)- المدينةالمنورة- عاداتها وتقاليدها- عبدالله فرج الخزرجي- ص43- ط1411ه - جدة. 5)- إفادة الأنام بأخبار بلد الله الحرام- عبدالله بن محمد الغازي- تحقيق د- عبدالملك بن دهيش- ج2- ص281-291-292. 6)- مكة في القرن الرابع عشر- محمد عمر رفيع- ص67- ط1401ه. 7)- الطائف القديم داخل السور في القرن الرابع عشر - لكاتب المقالة - ص232-233. 8)- إفادة الأنام بأخبار بلد الله الحرام - عبدالله بن محمد الغازي- تحقيق د- عبدالملك بن دهيش - ج1- ص628-632-716- ج2-ص290-291-292-338-342- 352 -364-391-392. 9)- المصدر السابق، ج4- ص451- موسوعة تاريخ جدة ج1- ص162- عبدالقدوس الأنصاري. 10)- راوي شفهي- الشريف أحمد محمد الطيب - المدينةالمنورة. (*) كاتب وباحث سياحي