منذ أن نشرت جريدة (الصن) البريطانية صورالرئيس العراقي السابق صدام حسين وهو يغسل ملابسه في زنزانته وهوامير الأيديولوجيات القومجية والدينية يذرفون دموع التماسيح على الكرامة العربية التي أهدرت من قبل تلك الصحيفة، تلك الكرامة التي شُخصت حصرياً في شخص القائد الضرورة!!! وعلى وقع ذرف تلك الدموع الصفراء بدأوا يتحدثون عن اتفاقيات جنيف وما ماثلها من اتفاقيات حفظ حقوق السجناء السياسيين، باعتبار أن نشر مثل تلك الصور لصدام حسين تمثل خرقاً فاضحاً لمثل تلك الاتفاقيات، وأن نصوصها تستدعي ضرورة مقاضاة الصحيفة المذكورة التي تجرأت على خدش الكرامة العربية التي يمثلها الرئيس العراقي السابق!!! ليست المشكلة هنا في تقرير مدى أخلاقية نشر مثل تلك الصور من عدمها فهذا موضوع آخر، ولكنها - أعني المشكلة - تكمن في المعنى الذي يمكن استنتاجه من وراء تلك الغضبة المضرية لأشباه المثقفين العرب ومستهلكي بضاعتهم من الديماغوغيات العربية من جراء نشر صور الرئيس العراقي السابق وهويغسل ملابسه في زنزانته في ما يتبقى له من وقت بعد وجبته اليومية من كتابة مذكراته ورواياته!!! باعتبارها - أي تلك الصور- تمثل من وجهة نظرهم صفعة للكرامة العربية يجب الرد عليها بمثلها. من يمثل الكرامة العربية المسكوب لبنها على خلفية نشر تلك الصور هو أحد أبرز الطغاة العرب الذين رضعوا حليب الاستبداد العربي حتى الثمالة، وهو من خلَّف وراء ظهره مئات الألوف من القتلى والمعوقين والأرامل والأيتام ممن رُزِئوا بنارالبعث طوال خمسة وثلاثين عاماً من نعيق بوم خرابه على أرض الرافدين المنكوبة بوحشية نظامه، لا تزال الذاكرة الكردية مثلاً طرية بصور ضحايا بلدة «حلبجة» الذين رشهم نظام البعث بالغازات السامة كما ترش البعوض بالمبيدات الحشرية، تلك الصورالتي بثتها حينها وكالات الأنباء العالمية، كانت ما بين أم قد التفت على رضيعها محاولة تغطيته من زمهرير كيماويات علي الكيماوي ورضيع قابض على لعبته كالقابض على الجمر عندما كان يقاسي النزع الأخير من الموت تحت طائرات الرش البعثي المرعب اضافة الى الآلاف من المشردين وساكني المقابرالمجهولة وممن قضوا في الحروب العبثية الصدامية، كل هؤلاء وأولئك لم يجدوا باكية لهم من بين البواكي العرب على نشر صور جلادهم وهو يغسل ملابسه التي لن تغطي عاره وعار ثقافة تتمايل مع سيرته طرباً، في الوقت الذي يعرف أولئك المتباكون أن الجلاد لم يكن يسمح لضحاياه حتى بتنظيف أكفانهم استعداداً لرحيل مجهول محتوم. هذا التباكي على صور الجلاد وهو يغسل ثيابه في زنزانته مقابل عدم التعاطف مع ضحاياه الذين لم يكونوا يجدوا في سجونه فرصة لتنظيف جروحهم فضلاً عن أن يغسلوا ملابسهم !!! لا يعني في حقيقته الا تكيداً جديداً على تشكل بنية العقل العربي التعيس في لحظات تشكل زمنه الثقافي على التماهي والاعتزاز بالاستبداد كأحد مقومات الشخصية العربية السوية، التي لا يُلْبَسها من يُشم في سلوكه أية ايحاءات تسامح أو احترام للانسان، والشواهد على تجذرالنظرة المقدسة للاستبداد ومجترحيه في الثقافة العربية أكثر من أن تحصى، نحن مثلاً عندما كنا على مقاعد الدراسة لم نكن نطرب لشيء قدر طربنا لاستعراض سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي «أحد أكبرمؤسسي مدرسة الاستبداد العربي» وهو يهوي على رؤوس ضحاياه بسيفه البتار أوعندما يحول مساجد الكوفة دبر كل صلاة الى مسالخ بشرية لأناس لم يكن لهم جرم غير أخذهم بالريبة والشك، في مقابل الاعتزاز بمثل هذه الصورة القاتمة السواد، كنا نطرق خجلاً أو نكاد عندما يمر قطار التاريخ على استحياءٍ على سيرة عمر بن عبد العزيز وهو يوقف الاستبداد الأموي بشعاره المعروف «ان الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً» لأننا لا نقرأ من خلال تلك السيرة عن سيوفٍ تلمع ورقابٍ تقطع !!!! أما عندما تمر روايات التاريخ بيزيد بن معاوية فلم يكن يستوقفنا شيء من سيرته كما تستوقفنا لحظات ابادته لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو عندما يصدر أوامره لعامله على المدينة «مسلم بن عقبة» باجتياحها واستباحتها وأهلها من ذراري المهاجرين والأنصار، في مقابل الاطراق طرباً لصورالبطش اليزيدي، كنا لا نحبذ لكتب التاريخ أن تروي لنا لحظات من تاريخ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهويخطب في الجموع من على منبر المدينة بُعيد اختياره خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالباً منهم مراقبة أدائه وتصحيح مسار انحرافه بشعاره الذي يقطر ديمقراطية واحتراماً للرعية «ان أسأت فقوموني» فذلك الشعار المتسامح الديمقراطي لا يجاري في نظرنا شعار القوة والجبروت الذي أطلقه الحجاج لحظة اعتلائه منبرالكوفة بُعيد تنصيبه من قبل عبد الملك بن مروان أميراً هناك «اني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها واني لصاحبها» انها ببساطة، ثقافة أُسِّست على تمجيد قيم الاستبداد والحط من قيم التسامح والديمقراطية، ولذا لم يكن الشاعر العربي المعروف عمر بن أبي ربيعة مغرداً خارج السرب الثقافي العربي وهويصف المتسامح بالعاجز بعجز بيته الشعري المشهور «انما العاجز من لا يستبد» فمن لا يستبد ويبطش فهو عاجز ساقط الذكر بين العالمين، أما المستبد فالرؤوس تتمايل طرباً عند ما يسطع التاريخ بذكراه!! ولذا لم يكن غريباً أن تأتي صور غسيل صدام لملابسه لتنشر غسيل الثقافة العربية «نخبوياً وشعبوياً» في تشكيل بنية عقلها على التفاخر بقيم الاستبداد وسير المستبدين.. [email protected]