كان «طايع» رجلاً بائساً وحزيناً لم تسعفه الأيام ولم تقف إلى جانبه مطلقاً. لقد ولد ضعيفاً وتكاثرت عليه الأمراض في صباه.. وماتت أمه وتزوج أبوه.. وأصيب بكسر في فخذه في أيام شبابه ولم يستطع السفر أو الرحيل أو الانخراط في الجيش أو شركة مثل أرامكو مثلاً. ظل يعمل في مزرعة عمه بعد موت أبيه بين العمال والمواشي يعاني من عسر الهضم والأوجاع التي تنتابه. وقد خطبت له زوجة عمه فتاة هزيلة، صفراء، كثيرة الصمت. مع أنها حسناء، إلا أنها لم تكن تعرف التدبير أو التنظيم أو الاهتمام. كانت تنام مثلاً أمام الباب داخل غرفتها.. وربما وجدها مستلقية على الصندوق الوحيد في الغرفة وقد ظهرت ساقاها النحيفتان المعلولتان.. وتناثر شعر رأسها وتلبد فوقه التراب. كانت زوجة عمه تقسو عليها قسوة مرّة، تعاملها مثل بهائم الحظيرة.. ولم تكن هي تشتكي أو تثور، فكانت تتحمل ذلك ببرود.. وربما بعدم إحساس فيخيل إلى من يراها أنها فعلاً لا تحس بالإهانة كأنها مخلوق تلقائي، يتحرك وفق قوانين الحركة والعمل، والأكل والشرب والنوم.. لا قوانين الأحاسيس والمشاعر. وذات يوم جلس طايع يتأملها وهي ناعسة، وقد أمالت رأسها نحو كتفها مستندة إلى الجدار، وقد مدت جسدها النحيف على التراب وظهر قدماها الأشهبان وأصابع قدمها المغبرة، فأثار ذلك كراهية مرة في نفسه لها. أحس بمعنى الضعف، والخواء في كل صوره.. وتمنى أن ينهض فيضع يديه في حلقها ويخنقها حتى تموت. ولم يتمالك نفسه فدفع قدمها برجله فصحت من نعاسها في وجل.. وقد راعه منظر وجهها الشاحب البائس.. وأخذت تحك جفنها بإصبعها، وتصر عينها في استغراب، ثم تنظر إليه في ذهول، لكن منظرها العاجز أثار في نفسه شيئاً من الاستخذاء وعدم الجدوى، فتركها فعادت تنعس من جديد!! أخذ يفكر فيها وفي نفسه، تأمل مسيرة حياته فوجدها ضعفاً على ضعف.. هشاشة ومرضاً، وقلة حيلة.. تذكر أنه لا يملك في جيبه أكثر من عشرة ريالات، وأنه لا يستطيع أن يسافر بل لا يستطيع أن يسهر أو أن (يعزم) أحداً أو أن يشارك أحداً في شيء. أخذ يصك أسنانه بيده وينظر إلى تاريخه بينه وبين نفسه.. وحاول أن يجد شيئاً إيجابياً يسرّي به عن ما في نفسه، فلم يجد إلا تلك الصور المتشابهة من الضعف والمرض والاستكانة. وسأل نفسه: أهو عبد لعمه أم أنه إنسان حر له كرامته، ويجب أن يكون له مستقبله وأولاده، وبيته، وماله.... لماذا هذه السخرة والظلم والاستعباد.. لماذا تصادر حريته هكذا حتى أصبح عند عمه لا يساوي دجاجة؟! أهو إنسان خارج إنسانيته ولماذا جرد منها هل امتُلك واستعبد، إذ تربى على هذه المهانة فصارت المذلة نوعاً من أنواع الإنابة والخضوع، والخشوع..؟! احتقر نفسه ثم أخذ يشفق عليها.. وراح ينظر إلى زوجته فوجد أنها صورة له بشكل من الأشكال، فتحولت مشاعر الغضب والكراهية لها إلى مشاعر عطف ورحمة.. وجدها مسكينة، مغلوبة على أمرها ليس لها في دنياها هذه شأن بل ليس لحياتها قيمة، ولا معنى لها في البيت ولا عند الجيران ولا عند أحد، لا تشارك في مناسبات، ولا تفرح بلبس، وليس في يديها العاريتين حلية واحدة. وجد أنها مظلومة، وأنها أقل من الدواب في الحظيرة. فالدواب يحصد لها العلف ويجلب لها الماء، لكن هذه المسكينة المنكمشة مثل عنكبوت لا أحد يهتم بها ولا يشفق عليها مع ما تتحلى به من صبر وطاعة بهيمية كريهة. أخذته شفقة مفاجئة ورحمة طارئة، لم يشعر بها تجاهها منذ أن اقترنا كما يشعر بها الآن. تمنى لو يكون قادراً على مساعدتها فيلبسها فستاناً فاخراً، ويشتري لها ساعة ثمينة، أو حلية تزين بها صدرها ويديها. تمنى لو أنها تحضر دعوة أو مناسبة فيحتفي بها الناس، ويكرمونها ويلقون عليها شيئاً من الاحترام وكلمات الإطراء. تمنى لو أن هذه المسكينة تنام على سرير ناعم وتفوح من جسدها رائحة عطرية. وتوقف عند هذه الأمنية وشعر بعبرة تختنق في حلقه ودمعة تذرف من عينه. *** عند الصباح كان طايع يدور حول صندوق عمه كذئب. كانت زوجة عمه تدفعه بيدها وبالسباب عن الصندوق، لكن طايع حمل فأسه التي ظلت ملازمة له في الحقل حتى كادت تكون جزءاً من يده فأهوى بها على قفل الصندوق فحطمه وكسره ثم أخرج رزمة من الفلوس. وفي المساء كانت زوجة طايع ترفل في الألبسة، والحلي تتباهى وتفرح.. وكانت زوجة عمه تزمجر وتنبح.. أما عمه فكان يضحك مكرهاً من ثورته وغضبه، واسترداد كرامته وحريته....