كان في فصلنا في المدرسة الابتدائية طالب اسمه (عجيريم) ولست أدري هل هذا هو اسمه الحقيقي أم هو تصغير أم لقب؟ المهم أننا لم نكن نعرفه إلاّ بهذا الاسم.. وقد كان بائساً ومن عائلة فقيرة.. فقد كان والده يعمل في المزارع والحقول بأجر زهيد.. وكان مشغولاً بجلب قوت (عجيريم) وأخوته لا يني في الكفاح ولا يكل من أجل سد رمقهم وجوعهم ولذا كانت معيشتهم عفافاً كفافاً، وكان (عجيريم) يعاني من فقر في الدم، وفقر في الحال كما يعاني من بطء في التركيز وربما أنه مصاب بما يعرف اليوم بالدسلكسيا Dyslexia وهي حالة ذهنية يصاب بها كثير من الناس في طفولتهم ولا علاقة لها بالذكاء أو الفطنة وإنما هي حالة (تشتت) مؤقت عادة ما يتجاوزها الطفل عندما يبلغ الثانية عشرة من عمره.. والغريب ان كثيراً من العباقرة مصاب بهذه الحالة في طفولته!! وكان المسكين أشعث أغبر له رأس ضخم، وشعر منفوش يتدلى على جبهته وصدغيه ويغطي أذنيه وكانت ترعى في هذا الشعر قطعان من سلالات وقبائل صغيرة ودقيقة!! وربما أتى إلى المدرسة دون ان يغسل وجهه أو يديه. وكانت كراريسه ممزقة، وملطخة بالأحبار والأوساخ.. وكان مدرس مادة الاملاء عصبياً متزمتاً في عصبيته وفي غضبه بعيداً كل البعد عن الأسلوب التربوي اللين الحاني الرقيق الرفيق.. وكان من عادته ان يصحح الواجب في الفصل.. وكثيراً ما ينادي (عجيريم) ويأخذه بأذنه ويقول: ما هذا يا كلب..!! أعد الكتابة يا حمار!! فتنتاب المسكين رجفة واضطراب ويعود إلى مقعده ويأخذ في تمزيق الأوراق الأولى كي يعيد كتابتها مرة أخرى.. ويبدأ في الكتابة وقد حنى المسكين رقبته وقرّب رأسه حتى يكاد يلمس الورقة.. وقد عض على لسانه، وأخذ يزحر.. ويخط ويمسح بالمحاية وينشق ويمسح أنفه بكمه.. وبسبب هذه الفوضى العصبية والنفسية العارمة فإن الدفتر يميل وينحرف فتنزل السطور مائلة منحرفة، وكان المسكين فوق ذلك يعاني من رداءة الخط فهو مثلاً يكتب السين بست شرطات، وعندما يكتب (الحاء) فإنه يكتبها مقلوبة.. ويظل على هذه الحالة، إلى ان يقف الأستاذ على رأسه وهو ينظر إلى خطه البائس المتعثر، في ازدراء.. فيرفع (عجيريم) رأسه وقد صر كتفيه، وأغمض عينيه متهيئاً للصفع، وهو ينتفض كعصفور وضعت رقبته تحت حد السكين.. فيرفع الأستاذ يده قبل ان يهوي عليه ويقول: أهذا خط يا بهيم!! لو أرسل أبوك حماركم لتعلم أحسن منك..!! ثم يقبضه من شوشته ويضرب برأسه الحائط.. وذات يوم نحس على المسكين وفي حصة الرياضة حدثت (مشكلة) وذلك أننا في الفصل مختلفو الطبقات في الغنى وكان معنا تلميذ - مدلل - قد وضع له أبوه رفيقاً من الطلبة بأجر.. يحميه منهم، ويوصله إلى البيت.. وكان هذا الزميل أنظف طلاب الفصل في مظهره وثيابه وكان يلبس طاقية - زري - وقد وضع ملابسه في حصة الرياضة داخل الدرج.. وحينما عاد لم يجد (طاقيته) وكان (عجيريم) هو الذي بقي في الفصل وحيداً فهو لا يزاول الرياضة لأنه لا يملك لباساً ولا حذاء رياضياً.. وربما لعب في بعض الأحيان كحارس بلباسه العادي، وربما طلب إليه ان يرش الملعب بسطل الماء. المهم ان الطاقية سرقت ذلك اليوم و(عجيريم) هو المتهم الوحيد وبناء على هذه المعطيات فقد حكم عليه بالجلد فأخذوه ودفعوه بقسوة وعنف إلى ساحة المدرسة بتهمة الاختلاس والسرقة وأحاطوا به بقلوب حجرية، وكأنه خائن وطني، أو مجرم حرب.. ورفع الفرّاش رجليه الحافيتين الرقيقتين وأخذ المراقب يضربه ضرباً عنيفاً وجائراً وغير رحيم.. وظل يتلوى بين أيديهم ويصيح ويستغيث.. ولكن لا أحد يسمع..!! ثم تركوه ملقى في الساحة أمام أعين الطلبة الغارقة في الدموع والرثاء.. ولم يستطع المسكين الوقوف على قدميه، فأرسلوا إلى أمه فجاءت مولولة فأسندته على كتفها وسارت به وهو يبكي، وهي تبكي وتنوح.. وفي نهائية اليوم الدراسي وجد زميلنا (المدلل) طاقيته عالقة بين درجه والجدار!! ولبسها في انشراح وانبساط.. وذهب إلى منزله مع رفيقه وكأن شيئاً لم يكن! وأسدل الستار الأسود على قصة ذلك البائس عجيريم وعلى حكايته إلى يوم الدين!!