تعيش مراكز الرعاية الصحية الأولية بالعاصمة المقدسة واقعاً مريراً، حيث لا يجد المريض سواء في المباني المستأجرة منها أو الحكومية العناية التامة، فالحاصل هو عدم توافر الأطباء المتخصصين، مع وجود أجهزة قديمة، ونقص واضح في الأدوية. ورغم أن تلك المراكز للرعاية الصحية تنتشر في الأحياء ووسط المدن والقرى والهجر لتقديم خدمات صحية وعلاجية للمرضى، إلاّ أنها تشتكي كثيراً من بعض النواقص، وهو ما يجعل البعض يلجأ إلى المستوصفات الأهلية، أو ربما رضي بما يعطيه الطبيب من دواء ربما هو الموجود فقط في المركز، وهنا يبرز السؤال: هل هذه المراكز بمعايير وجودة معتمدة؟، أم أنها مجرد مبان تحمل على واجهتها لوحة تعريفية؟. "الرياض" تنقلت بين عدد من المراكز في مكة وقراها، والتقت عددا من المواطنين، فكان هذا التحقيق. واقع مرير البداية كانت من مركز الرعاية الصحية الأولية في "حي شارع المنصور"، وهو حي مكتظ بالسكان من ذوي الدخل المتوسط والضعيف، وهو ما يعني حاجتهم للعلاج وعدم قدرتهم للمستوصفات والمستشفيات الخاصة، لكن المركز يبدو من الوهلة الأولى أنه غير صحي، واختياره لم يكن موفقاً، وبعيداً عن مستوى النظافة، فإن كثيرا من الصعوبات تتمثل في فترة العمل المحدد من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة ظهراً، وهذا هو النظام المعمول به في أكثر مراكز الرعاية الصحية الأولية بمكة، وهي فترة لا تساعد كثيرين على تلقى العلاج، فضلاً عن غياب الأطباء المتخصصين والأجهزة الطبية المساعدة، فالطبيب الموجود هو طبيب عام، وأجهزة المختبر ينحصر دورها في تحليل السكر والدم فقط، كما أن نتائجها غير دقيقة لتهالك الأجهزة وغياب المحللين عن الدورات التخصصية والتدريبية. لا يوجد سوى طبيب عام للكشف عن جميع الحالات.. ونتائج المختبرات غير دقيقة طبيب عام فقط ومن قلب مكةالمكرمة في "حي شارع المنصور" إلى أقصى طرف "جبل النور"، رأينا الصورة مكررة والواقع ثابتا، فالمبنى مستأجر ومخصص كغيره للسكن، بل ولم يصمم كمركز صحي. ومن "جبل النور" إلى مركز الرعاية الصحية الأولية ب "الزيماء" تظهر صورة سلبية أخرى، بل قاتمة السواد، حيث تحكى المشكلة بأكملها، لكنها تزيد من مأساتها بعد أن تم إخلاء مبنى الرعاية لإعادة ترميمه، ومن ثم نقل خدمات المركز إلى سكن الممرضات المجاور للمركز، بشقة لا يتجاوز عدد غرفها الثلاث!. وتحدث المواطن "صالح غرم الله الغامدي" قائلاً: كان الاعتقاد لدى كثيرين أن مراكز الرعاية الصحية الأولية ستوفر خدمات صحية وطبية جيدة، تساهم في الحد من الازدحام على المستشفيات، لكن الواقع جاء مغايراً كلياً، مضيفاً أن المركز يعتمد على طبيب عام وهو ما يعني طبيب طوارئ، ليس لديه سواء مسكنات لآلام قد تتضاعف مع مرور الوقت، مشيراً إلى أن المعاناة الأكثر للمراجعين في الفترة المسائية التي تغلق فيها أبواب مركز الرعاية. مركز الزيماء تم إخلاؤه منذ عام ونصف للترميم ولا يزال على وضعه مختبرات ضعيفة وتساءل "الغامدي": هل توجد فعلاً مختبرات للتحاليل الطبية بمفهومها العلمي؟ أم أن الموجود مختبرات بالمفهوم الاداري؟، مضيفاً أنه بالمفهوم العلمي لا يوجد مختبرات، وكل ما نراه مجرد أشخاص يرتدون "أرواب بيضاء" ويعملون داخل غرفة صغيرة بها جهاز لتحليل السكر، ورغم ذلك النتائج ليست دقيقة. وأوضح المواطن "عبدالله الهاجري" أن مراكز الرعاية الصحية الأولية في مكةالمكرمة مجرد مجمعات لعدد من الموظفين، حرص البعض على نقله إليها حتى يكون بعيداً عن الإدارة، مضيفاً أن الاداريين كثر وطبيب المركز واحد، وبهذا يكون الضحية هو المواطن الذي لا يجد الخدمة الطبية التي يبحث عنها، خاصةً اذا كان مركز الرعاية يتكون من عدد من الطوابق وبلا مصعد والطبيب بالطوابق العلوية، مشيراً إلى أنه من دون أدنى شك ستكون الرحلة شاقة، حيث يجد المريض حالته تزداد سوءاً مع صعود السلالم والانتظار أمام عيادة الطبيب كثيراً، لافتاً إلى أن الغريب ليس في العلاج المصروف، بل في الداء الذي يشتكي منه المريض، فقد يكون يعاني كسورا داخلية أو تقرحات أو التهابات، متسائلاً: هل يفي المسكن بالغرض ويكون هو العلاج الأمثل لذلك الداء؟. لا يوجد متخصصون وذكر المواطن "محمد عبدالله القارحي" أنه إذا كنت تعاني من أي ألم غير الرشح والزكام واتفاع درجة الحرارة، فلن تجد طبيباً يشخص حالتك المرضية ويصرف لك الدواء، مضيفاً أنه لا يوجود طبيب أخصائي في أي مركز رعاية، رغم كثرة المراجعين. مدخل أحد المراكز وقد تحول إلى مستودع للأثاث المستعمل ويشاركه الرأي المواطن عبدالعزيز قفاري" قائلاً: حتى مراكز الرعاية الأولية الحكومية التي يوجد في بعض منها قسم للأشعة، لا يوجد متخصص لقراءتها، فمجرد أن يعمل الفني الأشعة يذهب بها المريض إلى الطبيب العام الذي يشخص الحالة وفق ما يراه ووفق نظرته من دون تخصص دقيق في ذلك، مشيراً إلى أنه حتى بعض المراكز التي يوجد بها طبيب أسنان، فإن الطبيب لا يقبل في اليوم سوى حالات معدودة، وعلى المريض أن يتجه إلى المستشفيات والمراكز الخاصة. تعثر المشروع ومن الشرق إلى الشمال حيث يُعد واقع المركز الصحي في "محافظة الجموم" واحد من الأحاديث التي ترددها الألسن هناك، بل وتتناقلها المنتديات والمجالس؛ بسبب تواضع الخدمات الصحية في المحافظة، التي تُعد بوابة مكةالمكرمة ويسكنها أكثر من (110) ألف نسمة. وقال "سعد اللحياني" أن الأهالي استبشروا خيراً بالإعلان عن إنشاء "مستشفى الجموم" بسعة (200) سرير، وبتكلفة (80) مليون ريال قبل عدة سنوات، ما لبثت أن جفت بسبب تعثر المشروع، ما فاقم معاناة الناس، موضحاً أن المرضى لجؤوا إلى الخيار الصعب وهو اللجوء إلى فواتير المراكز الصحية الخاصة التي انفردت بالبسطاء هناك. وأوضح "هاني الحربي" أن مشروع المستشفى تعثر رغم شروع الوزارة في الحصول على تصريح البناء، وذلك بسبب رفض السكان بناء مركز صحي آخر، مطالبين بإنشاء مستشفى يخدم سكان المحافظة. ولفت "محمد الشريف" إلى أن ارتفاع أسعار الكشف في القطاع الصحي الخاص يصل إلى (70) ريالا، وأخذ حقنة في الوريد (15) ريالا، في حين أن سعر أخذ الحقنة لا يتجاوز خمسة ريالات في مراكز خاصة في مكةالمكرمة. صورة قاتمة وفي مكةالمكرمة تحولت عدة مراكز مستأجرة للرعاية الصحية الأولية أشبه ب "بثور" في وجه الخدمات الصحية في قبلة الدنيا، وصورة قاتمة في نظر المترددين عليها، فيما تتقاسم هذه المراكز المستأجرة جملة من الهموم المشتركة، منها ضيق المساحة وتكرر الأدوار وسوء النظافة وقدم المبنى، إضافةً إلى قلة المواقف وتواضع المظهر العام ورداءة البنية العامة، وتجيء المراكز الصحية في أحياء "العتيبية" و"كدي" و"الهنداوية" أمثلة دامغة وواقعا معاشا، بل إننا لن نتجاوز إطار الحقيقة إذا قلنا ان ثمة مراكز يزيد عمرها وهي مستأجرة عن (30) عاماً. وفي جولتنا الميدانية عبر "مرزوق الحجري" - 58 عاماً- عن أسفه لواقع الخدمات في مركز الرعاية الصحية في "حي ملقية" الذي نقل إلى موقع بعيد عن سكان الحي، مضيفاً أن معاناة الأهالي تبلغ الذروة عند مراجعة عيادات الأسنان، حيث التبكير صباحاً للفوز برقم. وأكد "حميد محمد النمري" - من سكان حي العمرة - على أن مركز صحي التنعيم لا يستقبل هو الآخر سوى عشر حالات فقط. وقال "إبراهيم اليامي": إن منطقة المركزية في مكة أصبحت اليوم واحدة من أغلى المواقع العقارية، لذا فإن الحصول على أرض وبمساحة كبيرة أصبح شبه بالمستحيل اليوم، حيث إن المتر الواحد يتحدد سعره من خلال القرب من ساحات الحرم المكي، موضحاً أنه لا حل في نظر كثير من المراقبين إلاّ العمل على صياغة دور يضمن مشاركة الفنادق الكبرى والمجمعات العملاقة في تخصيص مساحات لتكون مراكز لتقديم الخدمات الصحية للحالات الحرجة.