مما لا شك فيه أن المنطقة العربية بصورة عامة ومنطقة الخليج بصورة خاصة تتعرض لضغوط ومطامع متعددة وذلك نظراً لما تتمتع به من ثروة نفطية تشكل العصب المحرك للاقتصاد العالمي. وفي ضوء التنافس العالمي المحتدم على مراكز الوفرة وفي ظل وجود دولة إسرائيل التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة للقضاء على أي بصيص أمل للشعوب في المنطقة بالرقي والتقدم، وفي ظل الطموح الإيراني للتوسع والهيمنة، وبسبب ما يشكله الملف النووي الإيراني من هواجس قد تقود إلى ما لا تحمد عقباه أصبحت القوة من خلال الاتحاد هي السبيل الأمثل للوقوف والتصدي لتلك الهجمة الشرسة التي يعود جزء من أسبابها أيضاً إلى ضعف وتفرق كلمة العرب وهشاشة التعاون بين دولهم. أما دول الخليج فإنها تتميز بكبر المساحة وقلة السكان والوفرة النفطية والموقع الاستراتيجي ما يجعلها مستهدفة منذ عام (1980م) وحتى الآن حيث تعرضت منطقة الخليج العربي لثلاث حروب مدمرة هي حرب الخليج الأولى (العراق وإبران) وحرب الخليج الثانية (احتلال الكويت وتحريرها) وحرب الخليج الثالثة (احتلال العراق). والآن تعد العدة لاشعال حرب الخليج الرابعة بفتيل الملف النووي الإيراني والتجاوزات والتهديدات الإيرانية التي سوف تؤدي إلى إشعال حرب رابعة في الخليج أشد وأنكى من كل سابقاتها، وكل واحدة من تلك الحروب كلفت مئات المليارات من الدولارات.. إن إقرار القمة الخليجية (32) لمبادرة الملك عبدالله وتبنيها وتشكيل لجان عمل مشتركة محددة بفترة زمنية قدرها ثلاثة أشهر لانجاز الخطوط العريضة وعرضها على القمة التشاورية بعد ستة أشهر من الآن يدل على أن دول الخليج قد أدركت أهمية الاتحاد وضرورته باعتباره الاتجاه السليم والمنطقي نعم لقد أدركت دول الخليج العربي ومنذ أكثر من (30) عاماً أهمية التعاون ومن هذا المنطلق قام مجلس التعاون الخليجي الذي عقد دورته الثانية والثلاثين في الرياض خلال الأيام القليلة الماضية. هذا وقد أنجز ذلك التعاون كثيرا من الفعاليات وحقق بعض الطموحات إلا أن ذلك التعاون لم يرق إلى مستوى الطموح الذي ترغب به حكومات وشعوب الخليج، ولم يرق إلى مستوى التحديات التي تواجهها دوله ما جعل الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - يطلق مبادرة تاريخية مدوية تمثلت في الدعوة إلى نقل العمل المشترك لدول الخليج من التعاون إلى الاتحاد وذلك إدراكاً واستشعاراً منه - حفظه الله - بأن الاتحاد قوة وبأنه المعول عليه، فالعمل الجماعي أكثر قوة خصوصاً في عالم شهد ويشهد ولادة تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية في أوروبا وآسيا والامريكتين ولعل أشهرها وأبرزها الاتحاد الأوروبي. فالاتحاد الأوروبي هو اتحاد اقتصادي وسياسي يضم أكثر من (27) دولة تأسس عام 1992م بالتوقيع على معاهدة ماستريخت وقد حل ذلك الاتحاد محل السوق الأوروبية المشتركة وجاء نتيجة تراكم العديد من الأفكار والتحديات التي واجهتها القارة الأوروبية منذ خمسينيات القرن الماضي. ولعل من أهم مبادئ الاتحاد الأوروبي نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الاتحادية الأوروبية. لكن تظل المؤسسات الاتحادية محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة لها من قبل كل دولة من دول الاتحاد ولعل أهم مظاهر ونشاطات الاتحاد تتمثل في: * أن الاتحاد يشكل سوقا مشتركة للدول الأعضاء. * أصبح لدى الاتحاد بنك مركزي وعملة موحدة هي اليورو. * من أهم مؤسسات الاتحاد الأوروبي: المثلث المؤسسي الذي يضم كلاً من مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية. * محكمة العدل وديوان المحاسبة الأوروبية. * نظام موحد لجوازات السفر وإلغاء الفيز بين الدول الأعضاء (معاهدة شنجين). * اتباع سياسات مشتركة ومنسقة وسلسة في مجالات استراتيجية عديدة تشمل الدفاع والسياسات الخارجية والقدرة على المنافسة والأمن، والاهتمام بالبيئة والزراعة ناهيك عن الأمور الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعلمية. * يبلغ عدد سكان الاتحاد الأوربي ما يربو على (500) مليون نسمة وتبلغ مساحته ما يربو على أربعة ملايين كيلومتر مربع. * اللغة الرسمية (23) لغة. * تسمية السكان أوروبيون. * لا زال الباب مفتوحاً أمام عدد من الدول للانضمام إلى الاتحاد. هذا ويصنف الاتحاد الأوروبي الدول الأوروبية في ثلاث مجموعات هي: - الدول الأعضاء ويبلغ عددها (27) دولة. - الدول المرشحة للعضوية وعددها خمس هي جمهورية مقدونيا وكرواتيا وتركيا والجبل الأسود وآيسلندا. - دول أوروبية أخرى لا تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وعددها (17) دولة. نعم علىالرغم من التباين الكبير بين دول الاتحاد الأوروبي من حيث اللغة والتركيبة السكانية والأثنية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والتاريخية إلا أنها تمكنت من خلق اتحاد يقوم على أسس متينة قوامها الارتقاء إلى متطلبات المصلحة العامة للجماعة والفرد، وعلى العكس من ذلك نجد أن العالم العربي يملك تجانساً كبيراً من حيث الدين واللغة والتاريخ والهموم المشتركة والامتداد الجغرافي وتشابه التحديات التي تواجه دوله، وعلى الرغم من ذلك فهو مفكك متنافر ومتناحر لا يكاد يتفق قادته على شيء ذي بال ما حدا بدول الخليج العربي لأن تلجأ إلى إنشاء مجلس تعاون خاص بها مع البقاء والالتزام بكل مقومات العمل العربي المشترك. هذا وقد حقق مجلس التعاون الخليجي عدداً كبيراً من الانجازات في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية والصحية والموارد البشرية والشبابية والرياضية ناهيك عن العمل على إنشاء بنك مركزي وعملة موحدة واتحاد جمركي وتسهيل حركة التنقل والتملك والاتجار لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي وعلى الرغم مما تم إنجازه إلا أنه أقل مما كانت تؤمله شعوب الخليج، ليس هذا فحسب بل إن قدرة المجلس على مواجهة التحديات والتصدي للظروف الاستثنائية التي تمر بها منطقة الخليج والمنطقة العربية وضعت موضوع التعاون على المحك حيث تفرض الظروف الانتقال إلى مرحلة الاتحاد التي سوف تجعل الحراك أسرع وأقدر وأقوى. نعم لقد أدرك الملك عبدالله - حفظه الله - أن صيغة التعاون لم تعد كافية لمواجهة الظروف الطارئة والتحديات الخطيرة التي تواجهها دول مجلس التعاون حكومات وشعوباً وأرضاً ومنجزات، فأطلق مبادرته التاريخية العظيمة والمدوية والمتمثلة باقتراحه الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد والذي أعلن عنه أثناء افتتاحه لمؤتمر القمة الخليجي الثاني والثلاثين في الرياض والذي لقي ترحيباً واسع النطاق على المستوى الخليجي والاقليمي والدولي والذي سوف ينقل العمل المشترك لدول الخليج إلى فضاءات أوسع وأرحب وأسرع ما سوف ينعكس إيجاباً على مكانة وهيبة وقوة مجلس التعاون الخليجي؛ حيث سوف يصبح عدد سكان الاتحاد الخليجي (42.30) مليون نسمة ومساحته (2423) ألف كلم2 والناتج المحلي (917) مليار دولار، ونصيب الفرد من الناتج المحلي (21)) ألف دولار. ولك أن تتخيل قوة الجيش الموحد والأمن الموحد والتعليم الموحد والجوازات الموحدة وغيرها ما سوف ينعكس إيجاباً على جميع القطاعات التي سوف يتم إعادة هيكلتها وضخ دماء جديدة فيها فالايجابيات سوف تفعّل والسلبيات سوف تقل. وعلى الرغم من أن اتحاد دول الخليج سوف لن يكون اندماجياً في المرحلة الأولية إلا أنه سوف يأخذ من صيغة الاتحاد الأوروبي إيجابياته التي تتناسب مع ظروفه الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتقنية بحيث يتم إنشاء المؤسسات الرئيسة التي تدير عمل الاتحاد بصورة إيجابية.. ولعل من أهم الفعاليات الاتحادية العاجلة: * توحيد السياسة الخارجية. * توحيد الأنظمة والإجراءات الحكومية. * توحيد السياسات الأمنية والعسكرية والعمل على تكاملها وتعزيزها بالأفراد والمعدات والتدريب. * إنشاء مجالس مشتركة تدير الحراك الخليجي الموحد بما في ذلك السوق الخليجية المشتركة. * العمل على الحد من العمالة الأجنبية واستبدالها بالعمالة الوطنية سوف يحل مشكلة البطالة في دول المجلس ويخفف ويحد من النزف الاقتصادي الحاد الذي تعاني منه دول المجلس. * خلق تكامل في مجال النقل والمواصلات والاتصالات وأنظمة موحدة. * قيام الاتحاد سوف يمكّن دول الاتحاد من معاضدة بعضها البعض تجاه أي استفزاز داخلي أو خارجي دون أن يكون لذلك أي ردود فعل سلبية من قبل من يصطادون في الماء العكر. إن إقرار القمة الخليجية (32) لمبادرة الملك عبدالله وتبنيها وتشكيل لجان عمل مشتركة محددة بفترة زمنية قدرها ثلاثة أشهر لانجاز الخطوط العريضة وعرضها على القمة التشاورية بعد ستة أشهر من الآن يدل على أن دول الخليج قد أدركت أهمية الاتحاد وضرورته باعتباره الاتجاه السليم والمنطقي الذي يتوج اثنين وثلاثين عاماً من التعاون الأخوي الخلاق الذي مهد الطريق إلى خلق اتحاد يجمع ولا يفرق، يقوّي ولا يُضعف، يشد أزر الصديق ويرد كيد العدو، يحمي الحمىويدافع عن الحقوق والمنجزات. تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسّرت آحادا والله المستعان..