"أنا لا أستطيع الاستمرار بالظهور في الأفلام فقط، لكن في المقابل هناك الشهرة والمال أيضاً. المشكلة الوحيدة في الأمر أنني لا زلت أرغب في أن أؤدي دور هاملت في أحد المسارح أياً كان مكانه، لكن الوقت يمضي". بهذه الكلمات عبّر الممثل الأمريكي من أصول إيطالية "ألفريدو جيمس باتشينو" عن نفسه، عندما تم ترشيحه لجائزة الأكاديمية الأمريكية كأفضل ممثل رئيسي عن دوره في فيلم "سيربيكو" للراحل "سيدني لوميت"، إنه وقت مبكر من حياته السينمائية التي استمرت بعد ذلك أربعة عقود، بأن فيها شغفه الحقيقي بالمسرح وحبه للأدب وولعه الشديد بالفن بشكل عام، وهي جملة عناصر ضمن أخرى تعكس أسطورته السينمائية وأداءه الخارق الذي أدهش الكثيرين حول العالم من محبي السينما وعشاقها جمهوراً ونقاداً وزملاء مهنة، وهو في ذلك لا يختلف عن آخرين منهم، أعني زملاء المهنة، فيما عدا أنه استطاع أن يترجم ولعه عبر الشاشة الكبيرة في ثلاثة أفلام من إخراجه كان آخرها "وايلد سالومي – Wilde Salome" الذي تم افتتاحه في مهرجان البندقية السينمائي الثامن والستين، وحاز إعجاباً نقدياً واسعاً، في انتظار إطلاقه المحدود تجارياً للأسف!. لعل مسيرته السينمائية الفذة بالفعل بددت كثيراً من الوقت الذي كان يرغب في قضائه في المسرح حبه الأكبر، لكنه بمرور الوقت استطاع أن يبتدع لنفسه منهجاً مدهشاً في المزج بين ما يحب من السينما والمسرح، وعبر تلك الخلطة المتوافقة في عناصر عدة، ظهر فيلمه الأول الذي أخرجه عام 1996م "البحث عن ريتشارد"، عمل وثائقي مختلف يسبر غائراً في مسرحية "ريتشارد الثالث" أحد أبرز آثار العبقرية الانجليزية الشاعر والمسرحي "ويليام شكسبير"، التي يُعتقد أنه كتبها في العقد الأخير من القرن السادس عشر للميلاد، وكأن الفكرة العامة للعمل لم تكن كافية للفت النظر، فقد أبهر "باتشينو" بالفعل نقاد السينما وجمهوره بفيلم يترجم هوسه الحقيقي بالمسرح، في ماراثون بحث يبدو فيه مرور الأيام والشهور واضحاً، متنقلاً بين المسارح والشوارع وجموع طلاب المسرح والفن وعامة الناس، الأطفال وكبار السن، ممثلي السينما والمسرح، بطاقم ثقيل بأسماء بارزة في السينما مثل كينيث برناه، كيفن كلاين، كيفن سبايسي، جيمس إيرل جونز، أليك بالدوين، هاريس يولين، بينلوبي ألن، إستيلا بارسون، واينونا رايدر، أيدن كوين، فانيسا ردغريف، ف. موراي إبراهام. في هذا الفيلم وفي ما يقترب من الساعتين يبحث "باتشينو" بمصداقية بالغة ودون تحرج مثير للإعجاب، في العديد من الإشكالات التي تحيط بالمسرح في الوقت الحديث وبمسرح شكسبير تحديداً، والصعوبات التي يواجهها الأمريكي عندما يحاول التعامل مع فترة إنجليزية موغلة في القدم، الصدمة الأولى التي يعثر فيها من يحاول التعرف على عوالم شكسبير ذات الأغوار النفسية واللغة الصعبة ومستويات التواصل المختلفة والغامضة التي تجعل الكثير يحجم عن الاقتراب من عالم مفزع بتوغله وتضخمه كأدب نخبوي جاد وممل. هناك العديد من اللقاءات والمقابلات مع ممثلين تعاملوا مع مسرح شكسبير وقصص نجاحهم وإخفاقهم، ثم محاولة "آل باتشينو" في النهاية تقديم طرف من المسرحية في محاولة لاكتشاف الذات وقدرتها في التعامل مع أحد أعظم الكتاب الذين عرفهم التاريخ، والذي يجدر بالممثل السينمائي دائم التواصل مع النصوص والشخصيات أن يطلع على أعماله ولو بشكل خاطف، إنه فيلم جدير بالمشاهدة حتى وإن لم تكن تعرف عن مسرح شكسبير شيئاً، إنها رحلة نحو عوالم الإبداع والتفاني في استكشاف ما تحبه أكثر، المسرح في حال "آل". البحث عن ريتشارد في عام 2000م، سيغير "آل باتشينو" من تركيب خلطته، ويخرج فيلم "قهوة صينية" عن نص مسرحية ل "إيرا لويس" تدور أحداثها حول صديقين يتذكران مسار حياتهما المنفرد والمتقاطع والمشترك، في مسرح أحداث واحد وبسيط، شقة أحدهما، ومن خلال ذلك الحوار يكتشفان الكثير عن أنفسهما ويتخذان العديد من القرارات المهمة المؤجلة. الفيلم يقف وبشكل واضح على أداء معتبر وقوي لآل باتشينو وجيري أورباخ مع ظهور محدود لسوزان فلويد، النص يستشهد بأسماء العديد من الروائيين الكبار، وفيه تلاعبات وأحجيات لغوية مدهشة، لكن كل ذلك لا يشفع لقصة الفيلم العادية، التي ستختفي بسرعة في سنة سينمائية ذات إيقاع مختلف. بعد ذلك بعشرة أعوام يعود آل باتشينو إلى تركيبته العجائبية بتغيير عنصر أو اثنين، في فيلم "وايلد سالومي" الذي يبحث بنفس شبه وثائقي عن مسرحية الإيرلندي الفيكتوري أوسكار وايلد التراجيدية التي كتبها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر للميلاد، لكن الفيلم وإن كان يتبع المنهج الوثائقي الماراثوني السابق لفيلم "البحث عن ريتشارد" إلا أن "باتشينو" يستخدم القالب الدرامي المطلق لعمله في بنية تحتوي المسرحية والتوثيق والسينما، الأمر الذي ظهر في النهاية كعمل متكامل في الرؤية، مليء بالشغف المعهود عنه، ينضح بالفنية المطلقة، مع قصور في الشكل السينمائي بحكم استغراق العمل وقتاً طويلاً في التصوير والتحرير الواسع، وسعي الكاميرا الدائم في تتبع تفاصيل عديدة وغريبة امتلأ بها فيلم "باتشينو" عن كاتب وشاعر آخر يكن له تقديراً بالغاً. بوستر فيلم «وايلد سالومي كما فعل في "البحث عن ريتشارد" يتنقل بنا "باتشينو" في أماكن كثيرة، مستعيناً بالإحالات والشخوص التاريخية لعمله المعتمد على عمل إبداعي بارز، لكنه لا يستغرق في المسرحية نفسها أو أدب وايلد بشكل عام، كما أنه لا يهتم كثيراً باكتشاف المسرحية عبر أدائها كما في الفيلم السالف الذكر، إلا أنه يغوص في وايلد الأديب الذي يبدو أن شغفه بمسرحيته يشابه شغف الملك هيرودوت بسالومي المحرمة عليه، وهو الدور الذي تلبسه "باتشينو" مراراً عبر مسرحية سالومي التي أخرجها روبرت ألان أكرمان عام 1992م، وشاركته شيرل لي في دور سالومي. "آل باتشينو" يحاول اكتشاف نفسه وهو الذي صرح مراراً بأنه يجد صعوبة في التعبير عن نفسه، وإن لم تكن السينما قادرة على مثل هذا الاكتشاف فإن المسرح ربما يساعدها قليلاً دون أن يخرج من الشاشة الكبيرة التي تصغر عن ممثل في مكانته فكيف إذا أمسك زمام المبادرة وصار مخرجاً.