كان صاحبنا كثير التشكّي والتأوه ، ودائما ما يبحث عن الهمّ الصغير ليزيد من حجمه بالاوهام ، ويغض الطرف عن جسده المعافى الذي يستطيع ان يقضي به حوائجه دون حاجة لأحد ، ويغفل عن نعمة البيت الذي يظلله هو واولاده من حر الصيف، وزمهرير الشتاء ، ويستهين كثيرا بلقمة العيش التي يستطيع الحصول عليها وهو جالس على كرسي وثير في حين انه يرى العمال يشقون الارض بالفؤوس ويكسرون الحجر بالمعاول ، ولا يلتفت لما يلفه من امن وامان من الفتن والحروب التي تملأ العالم من حولنا كل يوم .. كان صاحبنا - وللاسف - كالكثيرين منا يريد كلّ جديد ويطمح للتنافس والتسابق والتفاخر على عباد الله ، لكي يحوز الاحسن والاكبر والاعظم ، في حين انه لا احسن ولا اكبر ولا اعظم !!.. **** مضت الايام وصاحبنا لا يزداد الا شكاية من آلام في ظهره وقدمه ويده ، ومن هموم صنعتها الاوهام ، ولكن ولحكمة ارادها الله ، فقد حالفه الحظ بالفوز بإحدى المسابقات التي يكون فيها نصيب المحظوظ اكثر من نصيب الذكي ، المهم انه فاز وكانت الجائزة تذكرة تؤهله هو وزوجته لفحص طبي شامل ودقيق لدى أكبر وأفخم المستشفيات ، ولانه لا يرضى ابدا بما قسم له فقد زمجر وارعد بسبب هذا النوع من الهدايا ، ولكنه رضي بالامر الواقع فالهدية غير قابلة للاستبدال بالنقد ولايمكن تحويلها لمستفيد اخر ، وعندما بدأت الفحوصات بان وظهر ماكان قد خفي من الامراض!!.. **** أظهرت الفحوصات والاشعة والتحاليل ان الزوجة في حاجة لعملية عاجلة بسبب ورم خبيث في صدرها ، كما اظهرت فحوصات الزوج حاجته لاستئصال المرارة وعملية عاجلة للعين بسبب انفصال الشبكية ، كان الخبر كالصاعقة عليهما ، فامتقعت ألوانهما واتسعت أعينهما وخيم الصمت عليهما ، وخرجا من العيادة لا يكلمان بعضهما ، وكأن خصاماً قد دب بينهما ، اتجها سويا الى ممر المستشفى الطويل يقطعانه ببطء شديد ، ينظران حينا الى الارض يتأملان خطوطها ، ثم يرفعان أعينهما الى اوجه المارة والى نهاية الممر الطويل والذي يظهر انه لا ينقطع بسهولة ، فالوقت يمر ببطء ، والاقدام كأنها من احجار ، والصدور ضائقة بهمومها ، والعقول مترددة في افكارها ، والاجسام مثقلة بأحمالها ، أحمال جديدة نسفت كل حمل قبلها ، وغموم سوداء حلت فتضاءلت عندها كل الهموم .. **** مرت الايام عصيبة وثقيلة ، ولكنها في النهاية انتهت ، ونجحوا في استئصال الورم من الصدر ، وافلحوا في اعادة ما انفصل من الشبكية ، وتخلص صاحبنا من المرارة بعد ان شق الاطباء في بطنه شبرا كاملا فعانى كثيرا حتى التأم جرحه ، لكنه ما شوهد بعدها متسخطاً من مرض ولا معظما لمصيبة ، بل امسى واصبح يردد كثيرا (حنا في عافية ، حنا بخير) واصبح يردد على ابنائه دائما (احمدوا الله على العافية) .. نعم .. فهم صاحبنا واستوعب ولكن بعد أن جرب الفقدان فأحس بقيمة الموجود ، وشكر نعمة ربه المعبود ، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال : (من اصبح منكم آمنا في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) .. وعلى دروب الخير نلتقي ..