ينطبع العقل بما يكثر تكراره، ويغزر تدْواله، وتتسع قاعدة القائمين به، فالطبقات الأكثر عددا هي الأوسع تأثيرا، إنها ذات نفوذ جماهيري، تستقطب العقل بخطابها، وتأسرها باهتماماتها، وليس في مقدور امرئ أن يخرج عمّا استيقظ عليه ونام، هكذا تصنع الخطابات التي يكثر القائمون بها، وتتسع شريحة المنادين إليها، هكذا تفعل بالعقل الأنساق التي يكثر جمهور المتحدثين عنها، إنها ذات الصوت الأقوى، والمدى الأبعد، إنها تُشيع في الناس اهتمامات ذويها، وتحتل عقولهم ونفوسهم، فيضحي العقل في معظمه صدى لها، ويزداد الحال سوءا حين لا تجد هذه النظرة وتلك الرؤية من يقف في وجهها، ويُخفف من حدتها، والخوف من هذا المصير هو الذي يوجب قبول التنوع علينا، والعمل على إفشائه، أقول هذا وأنا أسعى - قدر الطاقة - أن أقدم لكم قراءتي للعلاقة القائمة بين ثقافة الوعظ والسؤال الحضاري، الذي أزعج المسلمين والعرب في مفتتح العصر الحديث. وإذا كان النظر في واقع الثقافة يكشف للإنسان قربه وبُعده عن ذلكم السؤال والبحث عن جوابه، فإنني آثرت في هذه المقالة أن أنظر في نسق من أنساق الثقافة المتداولة في مجتمعنا، أنظر إليه لأستبين مدى ما يُقدّمه للإنسان تجاه المعرفة بالمأزق الذي تعيشه أمته، أنظر إليه لأستطلع السؤال الذي يطرحه على المسلم ليبقى مشغول الذهن مكدود الفكر في حل ما يواجه مجتمعه ومجتمعات الإسلام الأخرى، إنّ لدي - ولعله غير بعيد - إيمانا أنّ شغل العقل بسؤال الحضارة والتقدم عبر طرحه في مستويات عديدة وبوجوه كثيرة يخلق في المسلم الاهتمام رغما عنه، ويُساعد في خلق جيل يبحث ويفكر، فمتى تقاطر على الإنسان من جهات عديدة سؤال يُراد حله أضحى كاللغز حين تُلقيه على جماعة من الناس ينشغلون به حتى تُفسد عليهم استغراقهم في حله بما تبذل لهم من جواب فيه، إن سؤال التقدم يجب طرحه في كل زمان ومكان، إنه لغز ستحله الأمة حينما تصمد عقولها له، وتهتم به، وتعطيه حيّزا يليق به، إن هذا اللغز لغز أممي، تبذل في سبيله كلُّ جماعة ما تستطيع، وما دام هذا اللغز وعوائق حل الإنسان العربي له تكمن في واقع هذا الإنسان، فلم يكن أمامي إلا أن اختار طبقة من طبقات مجتمعنا؛ لكنها تختلف - في نظري - عن غيرها من الطبقات؛ إذ يُنتظر منها في هذا السبيل أكثر مشاركة، وأعظم عمل. ما شيء في بيئتنا اليوم أكثر تداولا، وأعظم تردادا، مما يحمله خطاب الوعظ، وتجري به ألسنة الوعاظ، فثقافة الوعظ أشمل خطاب، وأوسع جمهور، والوعاظ هم أغزر الناس قولا، وأكثرهم إلى العقل حديثا، وطبقة مثل هؤلاء الإخوان يكون الحديث عنها أولى، والنظر فيها من خلال سؤال التقدم والحضارة ألزم، فهي تشارك في بناء جزء من عقل المسلم واهتماماته، ومتى ما عُلِم أن معظم خطباء الجمع من أولئك الإخوان ربما بان الدور الخطير الذي تلعبه خطب الجمعة التي يحضرها معظم الناس في الشهر أربع مرات، وفي السنة قريبا من مائتي مرة! إن هذه الخطب الدينية تفعل الأفاعيل لو تمّ توجيه جزء منها إلى مشكلة المسلمين الأولى، إن شغل الناس بالأسئلة الكبرى مقدم على شغلهم بمسائل الدين الفرعية التي غالبا ما يكون هذا المسلم سمعها مرار وتكرارا. حين أنظر في مادة الخطب من خلال مسجدي الذي أصلي فيه، وكذا ما يجري في شهر رمضان المبارك، أرى جلها مصروفا إلى تزكية الإنسان والقيام بواجبه الديني خير قيام، إنّ المسلم في خطاب الوعظ الغالب اليوم منفذ ليس إلا، تنظر إليه ثقافة الوعظ على أن غاية ما يقوم به هو الالتزام بالعبادات وبما جاء به الشرع وأمر به، فهو مسلوب القدرة على الإبداع والابتكار، والنظر والاعتبار، تشهد ثقافة الوعظ المتمثلة في خطب الجمعة وغيرها من المحاضرات على أنّ المسلم ذاكرة فقط، ولعل هذا ما جعل كثيرا من المسلمين يتجه إلى إعطاء مهارة الحفظ حجما أكبر مما تستحق، فما دامت وظيفة المسلم أن يقوم بالأمور الشرعية فقط، وما دامت وظيفة الواعظ تذكيره إذا نسي، فهو لا يحتاج لشيء آخر غير الذاكرة التي تُذكره - إذا نسي التعاليم - إنّ إنسانا يُشعره من يقوده بأن هذا غاية ما يقوم به ليس غريبا أن تتجاوزه الأمم، وتتكاثر التحديات أمامه، ويقف دوما في مواقف الانتظار، يرتقب من يُعرّفه بما يقوم به، وبما يلزمه إتمامه. إنّنا نشتكي من عدم فاعلية الإنسان المسلم اليوم؛ لكننا لا ننظر إلى أن خطابنا، ومنه خطاب الوعظ، ما زال لا يؤمن بوجود إنسان غير الإنسان الذاكرة، الذي يُستنجد به في الصراعات، ويرمى بها في أُتونها، إنّ المواصفات التي تريدها بعض الخطابات من الإنسان تُؤثر - بل تختار - أن يظل ذاكرة فقط، إنّ غلبة ملكة الحفظ والذاكرة هي التي تحقق الاتباع والانقياد، وهي التي تُراد في تطويل أمد الصراع واستبقائه، ولو كان الإنسان يغلب عليه التفكر والنظر لكان من الصعب جره دوما وأبدا في ميادين الصراع؛ لأنه سيتساءل في كل لحظة عن مسوغات هذا الصراع، وموجبات هذا العداء، وإنسان كهذا لا تريده الخطابات التي تُناجز الآخرين، إنه يعوق - في ظنها - أهدافها السامية التي تصبو إليه، وترنو إلى تحقيقها! إن غلبة الذاكرة على مكونات الإنسان المسلم هي التي زرعت كثيرا من مشكلاتنا، فهي التي تجعل المسلم العامل في قطاع ما لا يُسارع إلى حل ما يواجه العمل من مشكلات، وإنما يسعى جاهدا أن يبحث في ذاكرته وذاكرة من حوله عما قام به من كان يرأس العمل قبله، وهكذا تصبح حياة الناس صعبة جدا - وهي حالنا اليوم- حين يكون الإنسان ذاكرة فقط؛ لأنه يرى جهده في تذكر الحلول، وليس في ابتكارها والبحث عنها، ولعل التعامل مع الإنسان بهذه المثابة هو الذي اضطرنا أخيرا إلى الاستعانة بالخبراء الأجانب لتطوير التعليم، بعد أن عجز الإنسان ذو البعد الواحد من القيام بالمهام الملقاة على عاتقه، مع أن المنتظر منه أن يكون أدرى بواقعه وحال التعليم في بلده، فلماذا لم يكن كذلك، لماذا أسلمنا تعليمنا إلى قوم لم يعيشوا فيه قرابة خمسين سنة؛ ليقوموا بتطويره لنا؟ أليس هذا دليلا كافيا على غيابنا عن واقعنا الذي كنا نظن أننا أكثر الناس معرفة به؟ إننا كثيرا ما نعزو تأخر إيجاد الحلول إلى البيروقراطية، والذي أذهب إليه أنّ أكبر مشكلة تواجه سرعة إيجاد الحلول هي غلبة بُعد الذاكرة في ثقافتنا، إنّ كثيرا من المشكلات جرّتها تنمية الذاكرة وإغفال الفكر، ومما يحضرني الآن ما أسمعه في الأقسام العلمية من قلة الموضوعات وشحها حتى دفع هذا الزعم إلى القبول بموضوعات بحثية، جدواها على العلم هزيلة أوكهزيلة، إنّ هذا هو المصير المتوقع حين تُنمى الذاكرة، وتكون هي القوة التي يتمايز الناس بها، ويتفاخرون بالاتصاف بها؛ لكنها ستظل على الرغم من حبنا لها ملكةً، تحفظ الحلول، ولا تصنعها! إنّ الإنسان اليوم يغلب عليه البعد الواحد، وما من غرابة في وضع كهذا أن تكون المجتمعات والأفراد من أشد محاربي التنوع؛ لأن التنوع يصطدم بأسس بنائها، ويدفع بها بعيدا عن طوق نجاتها، الذي طالما أخلدت إليه، والذي أرجحه أنّ الأمة الإسلامية لن تُخْرج رأسها بين الأمم دون أن تنسلخ من جلد الذاكرة، وتتلبس بجلد الفكر والنظر، على أنّ هذا المآل سيجلب عليها التعب والنصب، فما عرف الناس مذ كانوا طريقا أشد تضاريس وأجهد للنفس من سبيل العقل والفكر؛ لأن طريقه لا يعرف النهايات! ولا يطئمن إلى المحاصيل المرحلية، مهما كانت وبلغت! إن الإنسان العادي أحوج إلى فعالية العقل والنظر من حاجته إلى ملكة الحفظ؛ لكن ثقافة يُولي رجالها جُلّ اهتمامهم لبناء ذاكرة الإنسان لحريّة أن تزرع فيه الاكتفاء الخادع بما عنده، فتغدو غاية مواصفاته أن يملأ زوايا ذاكرته من تراثه، وهكذا كان اختصار الإنسان في بعد الذاكرة شيئا غير مستغرب في ظل إيمان الثقافة بالتراث وقدراته المستقبلية، وكان أيضا من غير المستغرب على ثقافة الذاكرة أهم مواصفات أهلها أن يحتكم الناس فيها حال التفاخر إلى هذا البعد؛ لأن من كان أحفظ كان أقدر على مواجهة الواقع وتحولاته، فواقع الأمس وواقع اليوم سواء؛ لكن الحال، وما صرنا إليه الآن، أبان خلاف المظنون! وأظهر أنّ ثقافة يعيش إنسانها على بُعدِ الذاكرة، وينتظره حماتها منه، تقترف إثما، تستحق عليه عند التأمل عقوبة النقد!