مهما تغزر الموارد فإنها تنضب عند ما يكثر ورادها، ويقل امدادها بما يبقيها ثرة في النماء، دائبة في العطاء، ولقد جبل أبناء الصحراء على الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين من ذوي القربى وعابري السبيل وسائر ذوي الحاجات، ما دفعهم لرسم خريطة طريق لمسار الأجيال نحو الترابط والتكافل والتكامل بسن قوانين مكارم الأخلاق لسد الحاجات ودفع الأضرار وترسيخ قواعد الحياة الكريمة في أرض تجود حينا وتشح حينا آخر، فعرف منهم من اشتهر بالجود والكرم والإيثار على النفس، ومنهم من عرف بفداء الموؤودات، ومنهم من دفع الديات وارسل النجدات، إلى غير ذلك من الأعمال التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وكانت الحروب من أكثر الكوارث إيلاما للإنسان، فهي تؤسس على الأطماع وتحول بين الانتاج والمستفيدين منه، وتمنع التواصل بين الشعوب المصدرة والمستوردة، وذلك لخطورة العبور، واستيلاء المحاربين على الصادرات وارتفاع الأسعار، وتضع الكرماء في مآزق أمام ذوي الحاجات ما يضطر بعضهم ممن لا يقدر على مساعدة الآخرين من عابري السبيل إلى الانزواء في منعطفات الأودية والشعاب تجنباً للحرج، فلا أشد من ضيق الكريم من عجزه عن إطعام ضيفه. يصور لنا شاعر جهني قديم موقف مضياف أصبح معدماً وهو يناجي نفسه في وحدته وهو لا يملك ما يقدم لضيف طرق خيمته ليلاً، فلم يجد ما يقدم للضيف فقال متألماً: وا وَنِّتي ونَّيْتها بعد هَوْدِ واونتي ونيتها بعد مهكاب من ضيفنا اللي مر ما نال فَوْدِ ما الوم عيني لو هدب رمشها شاب أحسبْك يا جودي من اصلي وعُودي جود بلا موجود راعيه كذاب أرْع الجمل لو فيه عشرة عدودِ ليا وفى عظمه من المخ ما ثاب إن مأساته من هذا الحدث أكبر مما يحتمل، والأبيات في ظني أكثر من ذلك ولكن غيبها عدم التدوين. وابن عم هذا الشاعر في زمن آخر يتألم لبعده عن مجالس الكرم في رحلة صيد أو هروب من واقع مؤلم، يصف أمانيه في تلك الساعة، في أرض نائية، طارحاً أمامنا صور مجالس الجود والاحتفاء بالضيوف فيقول: قال الغليّم وان بدا في المواييقْ بادي على راس الطويل المويقِ دموع عيني غَرَّقْتني غواريق على مراد النفس وايَبْس ريقي يا ما حلا شرب المبهَّر على الريق تاخذ براسك ريحته قبل هِيْقِ في اربع قَريْشِيَّات مثل الغرانيق ينقع لها وبل المطر في البريقِ في بيت مبني من عْلُوّ الصوافيق مفروش من زل الحرير الرقيق ويا حْلَيْل مْهَيْزعات المعاليق تُعْبَا لنَطّاش العشا في الفريق وزبديّةً يدفق بها السمن تدفيق تُعْبَا لربع مدلّهين الرفيق ويا حْلَيْل خوّة ضاربين الطواريق خُضْرِ القلوب مقصّرين الطريقِ وليا ضَرَبْنا جيّدات المواسيق تسمع لِعبْشان الرباعي رشيقِ ألفين ربعي ما سطوا بالتفاريق هذاك ابن عمي وهذا شقيقى هكذا قمة جبل «رضوى» توحي لمن تعلاها بأجمل الشعر، لإشرافها على البحر والقرى ومضارب بادية جهينة، وذلك المجلس الذي تمنى الشاعر من مظاهر ذلك الزمن القديم احتفاء بالضيوف، ومنتدى للقبيلة، في زمن يقدر الصحبة في القنص والرحلة والغزو، ويحرص على التئام الشمل. والقهوة العربية عماد المنتديات، يدعى لها برفع صوت النجر أو الهاون، وإذا رفع صوت صعب على الجيران ألا يلبوا نداءه والدعوة للحضور، وأكثر ما يكون إيذانا بوجود ضيوف، وقد يدفع الحضور إلى المشاركة في تكريم الضيوف وجبات أخرى وقد يجدون أنفسهم في حرج من تقديم الدعوة أو الأحجام عنها. وكانت الحادثة التالية في زمن الشح واحتباس الموارد وقلة ذات اليد عندما سمع الشاعر صوت النجر عند جاره يدعوه للمشاركة، فاستجاب للنداء وحيا الحضور بقوله: يا عيال لا وا سعَيْد اللي يحيّي بالرجاجيل ويقدم الزاد في هذا الزمان المشبهانِ في ربعةٍ تسمع الهرجة وتصفيق الفناجيل والنِّجر يلعب على الجنبين لعب النّقْرزانِ الناس شركاء في المعاناة وإدراك الأحوال، ولكنهم يمتدحون من يتغلب على الظروف ويحافظ على العادات الحسنة. اللهم أنعم علينا بفضلك واهدنا إلى شكرك، وتقدير ما أنعمت به علينا من خير وأدم علينا نعمة الأمن والأمان، وأمنا من تقلبات الأزمان.